مقاصد التشريع الأسلامي في خطبة الزهراء
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 24/9/1437 هـ
تعريف:

 

مقاصد التشريع الإسلامي في خطبة الزهراءعليها السلام

الفصل الثالث

كتابة الاخ الفاضل أحمد العرب

صياغة الأخ الفاضل عبد العزيز العباد

المقدمة :

   من خطبة لسيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها أنها قالت ( فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق والصيام تثبيتاً للإخلاص والحج تشييداً للدين والعدل تنسيقاً للقلوب وطاعتنا نظاماً للملة وإمامتنا أماناً من الفرقة والجهاد عزاً للإسلام والصبر معونة على استيجاب الاجر والأمر بالمعروف مصلحة للعامة وبر الوالدين وقاية من السخط وصلة الارحام منماة للعدد والقصاص حقناً أو حسناً للدماء والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس). صدقت سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها

   ونحن في رحاب شهادة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها، يناسب أن نتحدث ولو بنحو قليل في حق هذه الخطبة العظيمة للسيدة العظيمة، بالرغم من أن هذه الخطبة قد وقعت من قبل مخالفي منهج فاطمة الزهراء عليها السلام محلاً للتكذيب ولنفي الانتساب، قالوا إن هذه الخطبة لم يصح انتسابها لفاطمة وإنها لا تتصل بسند صحيح إليها، وهذا الكلام له جهتان، جهة ما هو الهدف من تكذيب نسبتها للزهراء عليها السلام ؟ والجهة الأخرى في الحديث عن نفس هذه الدعوة.

 ما الغرض من محاولات نفي نسبة الخطبة للسيدة الزهراء عليها السلام؟

   في جهة الغرض من التكذيب هو نفس الغرض الذي قام به هؤلاء في تكذيب انتساب نهج البلاغة لأمير المؤمنين عليه السلام. هناك كلام عند بعض الطائفيين يقول بأن نهج البلاغة ليس لعلي بن أبي طالب، والسبب الذي يدعوهم إلى ذلك أن في نهج البلاغة كلاما إذا قبلوه فهو يهدم أسسا في عقائدهم مثل الخطبة الشقشقية وتوابعها، ومثل الرسائل المتبادلة بين الامام وبين معاوية، فإذا قالوا بأن هذه الخطب وتلك الرسائل صادقة وتامة فإن هذه الخطب وهذه الرسائل سوف تهدم أسسا اعتقادية عندك ذلك الطرف، لأنه لا يمكن أن يقولوا هذا كلام علي بن أبي طالب ولا يهمنا كلامه فهم يعرفون مكانة الامام.

   فالطريق الاسهل في ذلك أن يقولوا أنّ علياً له مكانته وموقعه لكن بعض هذه الخطب منسوبة إليه ومنحولة ومفتعلة عليه، والبعض الآخر ذهب بعيداً فقال أن نهج البلاغة غير منسوب لعلي بن أبي طالب حتى لا يقال لماذا انتخبتم تلك الخطب فقط ونفيتم الباقي.    فنفس هذا الغرض وهذا السبب هو الذي جعل هؤلاء يقولون بأن الخطبة الفدكية ليست لفاطمة. لانهم لا يستطيعون أن يقولوا أن فاطمة كلامها غير مهم، فهي صحابية بناءً على تعريفاتهم، وهي في موقعها الاسلامي المهم كلامها وأفعالها يعطي ظلالا من التساؤل والتشكيك في الخلافة القائمة، بل يهدم بعض الاسس العقائدية، لأنه يوجد في هذه الخطبة - كما سيأتي بعد قليل- رؤية عقائدية متكاملة، فإذا ثبتت هذه الخطبة عن فاطمة عليها السلام من الناحية العقائدية فيما يرتبط بالله عز وجل فإنها تهدم الأسس العقيدية التي قام عليها الطرف الاخر واستقر بناؤهم العقدي عليها، ومن الجهة السياسية حسب التعبير ايضاً تلقي بظلال من التساؤل والشك على قضية الخلافة. فالأفضل أن يقال أن هذه الخطبة غير معلومة الانتساب لفاطمة وغير ثابتة، وهذا هو الطريق السهل شيء ويفي بالغرض.

سقوط دعوى انتساب الخطبة لغير فاطمة الزهراء عليها السلام:

    وأما في قضية هذه الدعوة نفسها، قد برهن علماؤنا على سقوطها باعتبار أن هذه الخطبة مذكورة في كتب متقدمة جداً من القرن الثاني الهجري سنة ١٥٧ هـ التي هي سنة وفاة لوط بن يحيى الأزدي المؤرخ والمُحدِّث المعروف، بمعنى أن هذا المؤرخ عاش في زمن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام، حيث عاصر تلك الفترة ودَوّن كتاباً بهذا المعنى اسمه خطبة فاطمة الزهراء ، فالأمر قديم على مستوى الكتب، ثم بعد ذلك كثرت الكتب والأسانيد المختلفة ، فبعض الباحثين يدعي فيها التواتر لكثرة من نقلها بأسانيد مختلفة.

   من جملة ما ذكر علماؤنا أن فقرات هذه الخطبة هي دليل على انتسابها إلى فاطمة الزهراء عليها السلام، ﻷن هذه المعاني وهذا السبك البلاغي العالي لا يتيسر إلا لمن أخذ من معدن النبوة المحمدية على صاحبها آلاف التحية والسلام ، والذي لا يستقي من ذلك المنبع لا يستطيع أن يتكلم بهذا المقدار من المعاني وبهذا النمط الراقي من البلاغة، ولذلك عندما أتى شخص من غير علماء الشيعة وهو أحمد بن أبي الطاهر وهو معروف بإبن طيفور البغدادي المتوفى سنة ٢٨٠ هـ والذي لديه كتاب اسمه بلاغات النساء ، حيث انتخب فيه أبدع وابلغ ما ألقته النساء المسلمات من كلمات بلاغية، وهو ليس في صدد الحديث العقائدي وإنما في صدد الحديث عن أفضل الخطب والنصوص البلاغية والأدبية من قبل النساء حيث أثبت من خلاله خطبة الزهراء عليها السلام وهو ليس شيعياً.

   فهذه الخطبة قطعة بليغة في غاية درجات البلاغة، كما أنها تحتوي على مضامين عالية وشاملة، لا تجده في خطاب آخر، إضافة إلى ذلك أنها قيلت على سبيل الارتجال وهذا أمر من الأمور المهمة، فكما يقولون أن الارتجال مقبرة الأفكار، فلو طلبت من أحد أن يرتجل ومن غير سابق إعداد، أن يتكلم عن موضوع الإرث في الإسلام مثلاً، فحتى لو كان فقيهاً متمكناً، فإنه سوف يتعثر ولا يستجمع كل أفكره بخلاف ما إذا كان قد أعد نفسه لذلك.

(الممتنع من الأبصار رؤيته ومن الألسن صفته ومن الأوهام كيفيته)

   فاطمة الزهراء عليها السلام في خضم هذه الظروف الصعبة، جاءت وألقت هذه الخطبة والتي تضمنت بحثاً عقائدياً عميقاً، فمثلاً في علم العقائد تلاحظ هذه الألفاظ الثلاثة التي تحدثت فيها ( الممتنع من الأبصار رؤيته - تقصد الله سبحانه وتعالى - ومن الألسن صفته ومن الأوهام كيفيته )، لماذا ذكرت هذه المراحل الثلاث؟ الامتناع في مرحلة الرؤية والامتناع في مرحلة الصفة اللسانية والامتناع حتى في مرحلة التصور الداخلي والعقلي. وأيضاً لماذا عندما قالت ( ابتدع الأشياء ) قالت ( لا من شيء كان قبلها ) ولم تقل ( من لا شيء كان قبلها )، نحن عادة نقول الله تعالى خلق الأشياء من لا شيء، لماذا لم تقل الزهراء من لا شيء إنما قالت (ابتدع الاشياء لا من شيء)؟.

   نحن نقول خلق الأشياء من العدم، وفاطمة الزهراء لا تقول ذلك وإنما تقول ابتدع الأشياء لا من شيء، وهناك فرق كبير جداً. لماذا الزهراء عليها السلام أتت بالأشياء الثلاثة الأخرى وصورها بلا احتذاء لأمثلة امتثلها من غير حاجة إلى تكوينها، ولا فائدة في تصويرها لله عز وجل، حتى يقولون أفعال الانسان تختلف عن أفعال الله، فأفعال الانسان مربوطة بأن تكون ذات سبب، فلو أراد أن يصنع شيئاً يلزمه أن تجتمع فيه ثلاثة أشياء مثلاً أن يبني بيتا فهناك ثلاثة أشياء مطلوبة: أولا الغرض والسبب، لابد أن يكون هذا العمل له فائدة وإلا عادة لا    يقوم الإنسان الحكيم بشيء غير مفيد له، إما فائدة دنيوية أو أخروية أو حتى لدفع الضرر. هناك أيضاً مواد أولية مطلوبة لصناعة شيئ ما، مثلا تريد أن تبني بيت لا بد من تحضير وإعداد هذه المواد، إضافة إلى ذلك لابد أن يكون في ذهنه مثال، خريطة ، نموذج، أو تحسين وتطوير لنموذج موجود .

   فالله سبحانه وتعالى في خلق الكون، وهذه الأمور الثلاثة لم تكن موجودة أصلاً، لا فائدة له في ذلك. فالله تعالى لا يستفيد ولا ينتفع من خلق هذا الكون بشيء، وأيضاً ليس هناك مثال أو نموذج أو خريطة فصور هذا الكون أو خلق الأرض أو الإنسان على ضوئه ، وليس هناك أيضاً مواد أولية لإعدادها ( لا من شيء كان قبلها) .

   فهذا الكلام لا يمكن أن يصدر من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله أو امثالهم، فهم بصعوبة يستطيعون فهم ظواهر القرآن، فلا يمكنهم فهم هذه المطالب العقلية الراقية. خصوصاً ونحن نتحدث عن السنة العاشرة للهجرة، فبعض العلماء يقولون نفس هذا المباحث ونفس هذه المعاني ونفس هذه المضامين العقائدية العالية، هي دليل بنفسه على أن هذا الكلام لا يصدر إلا من آل محمد صلوات الله عليهم.

الزهراء عليها السلام توضح في خطبتها فلسفة التشريع الاسلامي:

   ومن ذلك أيضا كلامها سلام الله عليها في مقاصد التشريع الإلهي، الله سبحانه وتعالى شرع تشريعات الهدف منها تصاعد وتكامل الانسان العامل بها الى الدرجات العالية، فلو خلق الانسان ثم أهمله عن التكليف لصار حاله حال سائر الحيوانات، يجري وراء شهواته واهوائه ويتسافل، لكن الله سبحانه وتعالى جعل له سلم للصعود والتكامل، وذلك عبر برنامج تشريعي من العبادات والمعاملات. هذا البرنامج التشريعي لم يأتي عبثاً وإنما كل تشريع وكل أمر ونهي، يهدف للوصول منه إلى غرض من الاغراض، فجعل الله الايمان تطهيراً لكم من الشرك والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر.

   الايمان بالله عز وجل ، يذكر بعض الباحثين حول هذه الجملة فيقول - وهو كلام دقيق وجيد - أن بعض الفئات من المسلمين دائماً تتكلم عن العقيدة، لا سيما من قبل المدرسة السلفية فهي دائماً تتحدث عن العقيدة بينما ـ يقول هذا الباحث ـ اساساً كلمة العقيدة لم تأت في القرآن الكريم بهذا النحو الذي يعظمه هؤلاء، لا يوجد شيئ في القرآن الكريم كلمة العقيدة وعقائد واعتقادات، فالموجود في القرآن الكريم هو الإيمان، المفردات: مفردة آمن، يؤمن، يؤمنون، المؤمنون، المؤمنات وما يرتبط بها ما يقارب من ٨٠٠ مورد جاءت في القرآن الكريم حيث ورد هذا الفعل بمشتقاته.

   بينما في كلمة العقيدة لم توجد في القرآن الكريم، فإذا أنتم تقولون أنكم تتبعون السلف وتستخدمون مفردات السلف، فالمفروض تقولون إيمان ولا تقولون عقيدة، تتحدثون عن الإيمان والمؤمن وما يرتبط بها، لكنكم متمسكون بموضوع العقيدة، فهذا أول شيء يخالف السلف فالمفروض يُرجع فيه إلى الاصول، فأنتم في هنا في أول خطوة هنا لم تقوموا بذلك. فهنا الزهراء عليها السلام تقول فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك. وهذه المدرسة لا تقول إيمان تقول عقيدة، عقيدة التوحيد بينما المفروض الاستخدام الصحيح هو استخدام الإيمان.

وجعل الصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر وهكذا بالنسبة إلى سائر العبادات كل أمر من الأوامر، وكل نهي من النواهي له غرض وغاية ومقصد يتعقبه.

( والزكاة تزكية  للنفس )

    نظراً لأن الإنسان عندما يخرج الزكاة يخرج من جيبه جزءاً من مجهوده، جزءاً من حياته، فهذا المال الذي تَحصّله كيف جاءه؟ هو لم يأتك من السماء، وإنما عملت وبذلت جهداً ووقتاً وجزءاً من عمرك ذهب في مقابله، بمعنى أنت حينما تذهب إلى العمل لمدة مدة شهر كامل مثلاً وتأخذ عليه راتب، هذا الراتب في الواقع جزءٌ منه استهلاك عمرك، فعندما تخرج زكاة هذا المال فأنت في الواقع تخرج حقا لله سبحانه وتعالى.

   فالزكاة هنا تشمل سائر الحقوق الشرعية كالزكاة المستحبة والزكاة الواجبة والخمس، وما يرتبط بكل إنفاق مالي أوجبه أو ندبه الله سبحانه وتعالى، فأنت في الواقع تعطي جزءاً من حياتك ووقتك وجهدك، وهذا يؤدي إلى أن نفسك تتزكى، يعني أنت لو تتصور هذا التصور البسيط تأخذ كفك وتعطيها إلى فقير فهذا شيء في غاية السمو، لكن هذا غير مطلوب منك، (تزكية للنفس ونماء للرزق )، ﻷن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى وكلما أعطيت ربك أو في سبيل ربك أعطاك الله سبحانه وتعالى .

 ( الصيام تثبيتاً للإخلاص )

   قالوا إن الصوم لعله العبادة الوحيدة التي لا يحصل فيها التظاهر والرياء. فالصلاة بالإمكان أن يطيل الركوع والسجود وتخشع الألفاظ، فالشخص يمكن أن يرائي حتى لو لم يقل شيء، فإذا لم يكن بنية خالصة فهذا رياء، لكن الصوم لا يقدر هذا الشخص أن يفعل هذا الشيء، فلا يمكن ﻷحد أن يعلم انه صائم الا إذا قال أنه صائم وجائع وبالأمس لم يتناول سحوره. ففيه تثبيتا للإخلاص.

   ( والحج تشييداً للدين ):

      منظر من المناظر التي تتجلى فيها قوة الاسلام والمسلين، أن المسلمين وبهذا العدد الكبير يجتمعون على صعيد واحد وفي حالة انسجام واحدة كما هو المفروض ان يصنع الحج، فهذا يُشيّد الدين.

( والعدل تنسيقا للقلوب )

   القلوب إنما تجتمع إذا كان هناك عدالة وقانون مدون مكتوب يجري عليك وعلى غيرك، لا تقدر ان ترضي الناس بالأموال فالأموال لا تحيط بكل الناس. هل تستطيع أن توزع على الناس مالاً متساوي؟ لا تقدر. اي دولة من الدول تريد ان ترضي الناس عنها، هل تستطيع ان تجري لكل انسان مبلغاً من المال؟ لا تقدر. لكن اذا كنت تريد تنسيقاً للقلوب فلتعمل بالعدل، العدل في القضاء العدل له اولويات، من أولوياته أن يكون مدون ، فالشخص الذي يعمل هذا العمل عليه هذه العقوبة سواء كان رجل او امرأة، من هذا المذهب أو ذاك، إبن تاجر أو إبن فقير. فعندما يكون الناس خاضعين لسلة القانون ويكون العدل حاكماً على الجميع تتنسق القلوب في الاتجاه الصحيح ، ويحصل رضا عام لدى الناس على وضعهم المعيشي.

( وطاعتنا نظاما للملة وامامتنا امانا من الفرقة )

      لو أن المسلمين أقاموا هذا النظام وأتبعوا هذا الإمام الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وآله بمقتضى حديث الثقلين ( ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبدا ) فـ ( الفرقة ) والاحتراب والتشرذم ضلال بلا اشكال، لماذا؟ لأن الثقلين ليسا هما القائدان للناس، وإنما القادة هم غير ذلك، فمتى ما صارت إمامة أهل البيت عليهم السلام التي هي الثقل الآخر للناس تكون أماناً من الفرقة والتشرذم والضلال.

( وطاعتنا نظاماً للملة والجهاد عزاً للإسلام والصبر معونة على استيجاب الأجر)

   لا شك أن من يريد أن يستوجب الأجر ويصل إليه، لا بد له من الصبر على ما يواجه، فهذا الأمر لا يحتاج إلى صرف أشياء كثيرة. هناك بعض الأمور لكي تحصل فيها على الثواب تحتاج إلى معاناة، فالحج يحتاج إلى سفر، الجهاد يحتاج إلى أن تبذل شيئاً كثيراً من بدنك. أما الشيء الذي تريده ولا يحتاج إلى صرف وتريد عليه الأجر الكثير هو الصبر على ما تلاقي، الصبر على المصائب التي تأتي إليك، وهذا لا يحتاج إلا إلى موقف نفسي، يحتاج الى صمود وتجلد وإلى احتساب، ان تقول حسبنا الله ونعم الوكيل. تحتسب عند الله سبحانه وتعالى، وتصبر على ما أصابك. فبماذا بلغ أيوب ما بلغ؟ بلغ بما تشير إليه الآية المباركة (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )[1] من ابدع الاساليب التي يلاحظها الدعاء هنا هو هذا الاسلوب. فتأمل في هذه الآية أنه لم يقل له يحتاج إلى شيء، حالي هكذا أنا مسني الضر يا رب ولا أقول لك افعل شيء، لكن أنت أرحم الراحمين.

   هذا التعريض الذي يكون بهذا الشكل من أفضل أنحاء الأدب مع الله سبحانه وتعالى. بحسب التعبير التكليف عليك ، وانت تحدد ما الذي ينبغي ان يصنع فبلغ ما بلغ بصبره، بلغ الأجر، والصبر استيجاب للأجر سواء كان صبر على المصيبة، أو صبر على الطاعة أو صبر عن المعصية، هذا كله يستوجب للإنسان ويعطيه الأجر.    هذه وامثالها من مقاصد هذا التشريع، الغرض والغاية من هذه التشريعات أن يرتقي الانسان في مدارج الكمال درجة بعد درجة.

   الخاتمة:

   آخر حديث نتحدث فيه وأنهي حديثي إن شاء الله شخص يقول نحن نصلي لكن نرى أُناس متكبرين بينما الصلاة هي تنزيهاً عن الكبر، وأيضا نرى أشخاص يزكون، يُخرجون من أموالهم زكاة وصدقة مستحبة، ولكن لا نلاحظ أن أنفسهم زكية، فلماذا مع ان الشرع يقول هذا يؤدي الى هذا؟ الجواب كما يقدمه العلماء أن هذه حِكَم وليست علل. الحكمة يعني الغاية والغرض الذي أراده الشرع أن يكون هكذا لكن هذا يشترط ان تكون النفس فيها قابلية. الصلاة بذاتها تؤدي الى هذا الأمر لكن إذا إنسان نفسه نسف متبخترة وصعبة وقاسية ، آنئذ التأثير يكون أقل مما لو كانت نفس هذا الانسان مؤهلة. ومثال ذلك التكويني الواضح: المطر الذي ينزل من السماء إلى الارض ماء بارد زلال، هذه البقعة من الارض اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، الى جانبها قطعة ارض سبخة تعلُوها طبقة من الملح. فالمطر هو نفس المطر والماء نفس الماء، لكن هنا نزل على أرض مناسبة لها قابلية الإثمار فأنبتت وهنا نزلت على ارض سبخة فلم تُبدي الإ ملحٌ أُجاج.

   كذلك العبادات وكذلك التوجيهات وكذلك القرآن الكريم كله أيضاً، فتجد في القرآن الكريم مثلاً قسم من الناس يزيده ذكر الله اطمئناناً ( أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[2] وقسم آخر كلما تُليت عليه آياته زادته طغياناً وعدواناً وأُمور سيئة ( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ )[3]. فالتشريع حاله هو هذا الحال.    هذه التشريعات قد تكون الغرض منها هو هذا، قد تؤثر في هذا الشخص إذا كانت له قابلية ولا تؤثر في ذاك إذا انعدمت قابليته.

   هذا الحديث عند الزهراء عليها من السنة الحادية عشرة للهجرة، فلو أراد الإنسان أن يتعرف كيف نشأ وحدث التشيع؟ فليرجع إلى خطبة فاطمة الزهراء عليها السلام التي قيلت في تلك السنة، ليتعرف على المعاني السامية وطريقة الاستدلال على القوم ونقاشها لهم بالقرآن الكريم ( أفخصكم الله بآية أخرجني وأبي منها؟ ) وأمثال ذلك، هذا البرنامج العظيم الموجود في هذه الخطبة لا يمكن أن يكون إلا من فم فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها، وكان حرياً بقومها وبمن عاصرها ان يقبل التراب الذي تمشي عليه فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه.

 [1] ) سورة الأنبياء : آية 83

[2] ) سورة الرعد : آبة 28

[3] ) سورة التوبة : آية 124

مرات العرض: 3438
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2583) حجم الملف: 41032.9 KB
تشغيل:

النبي محمد خلقة وبيئة وانجازا
من التراث العلمي للامام علي عليه السلام 20