الحاجة إلى الدين في عصر العلم
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 3/9/1437 هـ
تعريف:

           الحاجة إلى الدين في عصر العلم

تفريغ نصي الفاضل محمد رضا الطريفي الجمريّ

تصحيح الأخت الفاضلة ليلى الشافعي
بسم الله الرحمن الرحيم
"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ"
ترتبط قِصَّةُ الأنبياء وبعثتهم إلى البشر بموضوع الحاجة البشرية إلى الدِّين، هذه الحاجة الأكيدة في نفس الإنسان تتطلَّب أن تُغطَّى من خلال مبعوثين عن الله (عزَّ وجلَّ) يكونون الواسطة بين الخلق وبين ربهم ليقضوا هذه الحاجة في أبعادها المختلفة، ولذلك -كما ذكرنا في ليلة مَضَت- كان خَلْقُ النَّبي والرَّسول في بداية هذه الدَّورة البشرية سابقًا على خَلْق البشر أنفسهم. فوجود الحجة ووجود الرسول، ووجود من يقوم بتغطية هذه الحاجة ينبغي أن يكون سابقًا على وجود هذا الإنسان.
     حديثنا هذه الليلة يتناول موضوعًا من المواضيع المهمة المتجدِّدة، وهو موضوع (حاجة الإنسان إلى الإيمان والدِّين) في كلِّ العصور وفي عصر العلم الذي نعيشه حاليًّا، وذلك لأنَّ هذا السؤال يتجدَّد مع كل تأثير غربي وافد ويطرح على من يذهب إلى هناك من مبتعثينا وطلاَّبنا وجاليات المسلمين، بل ويفد إلينا أيضًا ضمن ما يفد من الثقافة والنتاج الغربي.
يجادل هؤلاء بأنَّه لا حاجة إلى الدِّين في هذا الزمان، لا حاجة إلى الإيمان في هذا الزمان؛ لأنَّ عصر الدِّين قد انتهى، والآن نحن نعيش في عصر العلم. تفسير الدين للأشياء، وكشفُهُ عن الحقائق، كان ضمن فترة زمنية ماضية، أما الآن فالعلم تولّى هذا الدور.
لأشرح لك هذه الفكرة قبل أن نفد في الحديث عمّا يطرحه المؤمنون والمتديّنون، سواء كان من المسيحيين أو المسلمين أو اليهود من أفكار، في بقاء الحاجة إلى الدين. صيغة الفكرة التي تنفي الحاجة إلى الإيمان، وإلى الدين، في هذا الزمان تقول هكذا...
فكرة أن الإنسان مر بثلاثة عصور
 العصر الأول يسمونه: عصر الخرافة، والعصر الثاني: عصر الدين، والعصر الثالث: عصر العلم التجريبي.
العصر الأول: عصر الخرافة :
يقول الزَّاعمون بعدم الحاجة إلى الإيمان والدين : كان الإنسان في الأزمنة السَّحيقة يرى الأحداث حوله ولا يملك لها تفسيرًا، يرى البراكين والزلازل و العواصف و الأمواج و الخسوف و الكسوف و  الظواهر الطبيعية، يرى الأشجار الضخمة، ويرى الحيوانات المفترسة والقوية فلا يملك تفسيرًا لهذه القوى التي تدمّر ما أمامها، لا يدري لماذا الزلازل تحدث؟ و البركان لماذا يخرج؟ و الشمس لماذا تُكسَف؟ و الليل لماذا يأتي؟ و الفيضانات لماذا تحدث؟  فلا يعلم عن هذه الأشياء فتصوّر –هكذا يقولون- أنّ هناك أسرارًا غيبية في داخل هذه المخلوقات, و قوى روحية مجهولة ضخمة في داخل البركان، وأرواح ضخمة قوية في داخل الزلزال، ففي داخل هذه الأشياء هناك أسرار غير معروفة تغيب الشمس يطلع القمر ويأتي بالليل، والإنسان حسب كلامهم انتحل خرافات في تفسير هذه الأحداث والظواهر الطبيعية ، ولأنّها كانت أقوى منه وأكبر فخضع لها وعبد بعضها، وخاف منها ، وتوسّل إليها ، وقرّب القرابين لأجلها، كل هذا من أجل أن يرد سطوة هذه الأشياء الخارقة الأقوى منه ،
معتمداً على أنّ هذه الأشياء في داخلها أسرار، وأرواح ،و قوى كامنة، فحتى يتّقي شرها عَبَدَهَا واحترمها و قرّب إليها القرابين . هذه المرحلة الأولى، ويطلقون عليها أسماء مختلفة مثل: المرحلة الطوطمية، وغير ذلك. وهذه بحوث ولا نحتاج للذهاب وراء هذه الأسماء، فالمهم الفكرة بشكل مختصر تكون واضحة. هذا العصر القديم جدًا للإنسان.
عصر الدين :
يقول هؤلاء: بعد ذلك بدأ عصر الدين وتطوّر الإنسان في مداركه العقلية و جرّب الأشياء و تركزّت ملاحظاته، فبدل أن يقول كل شيء فيه روح مخيفة وقادرة؛ جمّعها كلها فافترض وجود قوة خارقة سمّاها مثلاً (الله)، سمّاها (المعبود)، وهذا موجود في مكانٍ عالٍ في السماء، فهو المسيطر على كل الأشياء، وهو المسيّر لكل هذه الأشياء، ومن هنا يقول هؤلاء نشأت فكرة الإيمان بالقوَّة القادرة الواحدة ، بدل أن كانوا يقدِّرون روح البركان والثعبان والفيضان والزلازل، حدث أن جمعوها كلَّها في قوة قادرة واحدة والتي اعتبروها هي المتفردة بإدارة هذا الكون. يضيف هؤلاء أنّه في هذه الفترة أيضًا جاء جماعة نحن نسمّيهم (الأنبياء)، هم يقولون جماعة من الأذكياء، من الفاهمين، وأقنعوا الناس بأنّ بينهم وبين تلك القوة ارتباط وبالتالي سيّروا الناس في هذا الاتجاه فنشأ عصر الدين، وهم طبعًا - أصحاب هذه الفكرة - لا يعتقدون بقضية المرسَلين وأنّهم مبعوثون من قبل الله وإلى غير ذلك، فيقول: الإنسان تطوّر فكره هكذا إلى أن جمّع القوى الخفيَّة المقتدرة في قوة واحدة، وفي هذه الأثناء أتوا جماعة من الأذكياء والفاهمين ربطوا أنفسهم بهذه القوة الكبيرة وصار العصر الذي يسمى بعصر الدين.
عصر العلم :

على أثر تقدُّم الإنسان في عقله وعلمه ترك الخرافات التي تعود للعصر الأول وصار في العصر المتقدّم نسبيًّا وهو عصر الدين. يقول: هذا استمر إلى فترة عصر العلم، بعد ما تم الطَّلاق بين الكنيسة الأوربية وبين العلماء الطبيعيين، وبالذات بعدما وجد المنهج التجريبي، والمذهب التجريبي في حوالي ما بعد سنة 1550 أو 1560 ميلادية صار هذا المنهج التجريبي الذي يصل إلى الحقائق عبر تجارب علميَّة دقيقة في كل شيء، يقول: الآن اكتشف الإنسان أنّ قضية الخسوف والكسوف لا يوجد فيها أرواح ولا فيها قوى خفية، وإنّما هي معادلة فلكية واضحة الأسباب ، وأصبحت الزلازل أيضاً معروفة باعتبار تحرّك الصفائح الأرضيَّة ضمن نظام معيّن، وأصبحت البراكين أيضاً لها سبب معروف وواضح ،وأصبحت كل هذه الأشياء معروفة. لذلك استغنى الإنسان - كما يقول هؤلاء - عن الحاجة إلى الدِّين في تفسير مظاهر الطبيعة، وفي ذلك الوقت لا يحتاج إلى الإيمان ولا إلى الدين. لماذا يحتاج ؟ ! كان يصلّي صلاة الآيات، الآن هو يدري أنّ الخسوف شيء طبيعي مثل ما تطلع الشمس فالخسوف والكسوف أيضًا يحدث.
وهكذا بالنِّسبة إلى سائر الأمور، وكلما زاد الإنسان معرفة بعالَم الطَّبيعة والأسباب والعلل المتحكمة فيه، اتّجه باتّجاه العلم وترك الدين. إذا كان يعرف %50 من الأسباب يكون متدينًا بمقدار % 50، وعالم طبيعي بمقدار %50 ، فإذا عرف أكثر الأسباب فإنَّه يترك الدين، ماذا عنده ليبقى في الدين؟ الدين كان يفسّر له ظواهر الطبيعة وغيرها ويعطيه فكرة، فهو الآن لا يحتاج له فيتركه.
فيقول: الآن نحن بدأنا في عصر العلم وليس في عصر الدين، عصر الدين انتهى، وكلَّما تقدّم الإنسان في العلم كلّما ترك الدين. هذه خلاصة فكرة هؤلاء.
وهذه الفكرة يتعرَّض لها أيضًا شبابنا المبتعثون وجالياتنا الموجودة في الخارج، وأيضًا يصل إلينا تأثيرها من خلال ترجمة النَّظريات والكتب والأفكار. هل بالفعل الأمر هكذا أم لا؟
 ردود المتدينين المؤمنين :     عندما نتحدث عن المؤمنين لا يعني خصوص المسلمين
وإنّما عموم من يتدينون بدينٍ إلهي ، مسيحيين كانوا أو يهودًا أو مسلمين  المؤمنون بالأديان وببقاء الحاجة إليها يطرحون جوابَين:
1. الجواب الأول يسمونه جوابًا نقضيًّا, والجواب النقضي يعني ماذا؟ يعني أنَّ الغرض منه تخريب كلام الطَّرَف الثاني فحسب, مثل: ذلك نفخ بالونًا، وأنت تأتي وتأخذ دبوسًا وتثقبه. أحدهم يأتي ويقول لك -مثلاً- كل هذه البلدة مؤمنون، فأنت لا تحتاج أن ترد عليه، فقط أره شخصًا واحدًا من البلدة غير مؤمن, وانتهت نظريَّته، أليس هو يقول كل أهل هذه البلدة مؤمنون؟ فقط اجلب شخصًا واحدًا غيرَ مؤمن ولا تكثر النقاش معه. هذا يسمونه الجواب النقضي، فيكفي أن تأتي بشخص واحد غير مؤمن تخرّب به نظريته, وهذا الجواب النقضي.
يردّ المؤمنون وأتباع الديانات على هذه النظرية أولاً بجواب نقضيّ؛ حاصل هذا الجواب: أنّكم تقولون كلما تقدّم الإنسان في العلم ترك الإيمان والدين، باعتبار أصبح بالعلم يعرف الأسباب أكثر, فيترك الدين بشكل أكثر. ومقتضى هذا أن يكون عدد المتدينين والمؤمنين في هذا العالم المتطوّر الآن علمياً بما لا يُقاس بسنة 1600 ميلادية بيننا وبينهم 400 سنة المجتمع البشري قفز قفزات هائلة في العلم, يُفترض بنا -على هذا الفرض- ما دام العلم أخذ مداه الأوسع أن يكون الدين متراجع، وأن يكون المؤمنون قلة، وأن يكون اللجوء إلى الدين والإيمان ضعيف!.
الإحصائيات تقول أنّ العالم اليوم يقترب من 8 مليارات نسمة، من هذه الثمانية مليارات فقط 16% منهم غير متدينين ، بين (ملحد) و (لا أدري)، يعني هناك ملحد يقول لا يوجد دين، ولا نحتاج إلى الله ، وبين واحد بهيمة الله في أرضه حسب التعبير, لا يتدين بدين – لا عن إلحاد وكفر- لا يمرر الأمر هكذا , هذا 16%. بينما يقولون مثلاً المسيحية - لو صدقت هذه النسبة - يشكِّلون 31% من البشر، المسلمون يشكلون 23% من البشر - إن صدقت هذه النسبة - الهندوس يشكلون حوالي 18% من هؤلاء البشر، والباقي 17 أو 16% لا دينيون والباقي من أديان مختلفة شتى.
إذا كان عدم التدين 16%، مع أن العلم وصل إلى أقصى مدياته، فهذا ينقض نظريتكم، كان المفروض كلما زاد العلم يترك الدين أكثر، ولكن الدين صار سواء في المسيحية أو في اليهودية أو في النصرانية، بل حتى في الهندوسية – وإن كنّا سنتحدث عنها أنها ليست ديناً إلهياً -. على كل حال المؤمنون بهذه الأديان أضعاف مضاعفة لغير الدينيين، وهذا ينقض نظريتكم, والمفروض كلامكم أنه كلما ارتقى العلم قل ارتباط الناس بالدين، والحال أننا نجد أنّ المؤمنين وأصحاب الديانات أضعاف ما هم عليه من غير الدينيين والمتدينين، هذا من حيث الكَمِّيَّة.
من حيث الكيفيَّة: المفروض كلما زاد الإنسان علماً يزيد إلحادًا ويترك الدين أكثر، لكننا نجد عكس ذلك، الآن في الأمة الإسلامية كم من مئات الألوف من أصحاب الكفاءات العلمية العالية. في الأمة المسيحية كم من الملايين من أصحاب الكفاءات العلمية، وهكذا بالنسبة إلى غير هؤلاء. ما دام أنه كلما زاد العلم قلّت الحاجة إلى الدين وعدم الاعتراف فيه، المفروض هؤلاء لا يكونون أصلًا أجزاء من الأمة الإسلامية، ولا من الأمة المسيحية، ولا من الأمة المتدينة، المفروض يكونون غير متدينين!، والحال أننا لا نجد هذا، بل نجد حتى من يكون في مرحلة من مراحل الشك ينتهي به الأمر إلى الإيمان،
العلم يدعو إلى الإيمان :
كما قال صاحب كتاب (العلم يدعو إلى الإيمان)  والذي يبيِّن فيه هذه الحقيقة؛ وهي أنَّ هذا الكون قائم على نظام دقيق جدًا، بحيث من يتعمّق فيه لا يملك إلاّ أن يعترف بالله (عزَّ وجلَّ)، وأن يسلّم له ويؤمن به، هذا قديم واحد. الآن فرنسيس كولينز هذا رئيس مشروع الجينوم البشري في أمريكا، (الصبغة الوراثية، الجينات) وهذا آخر ما انتهى إليه العلم من الكشوفات، له مشروع ضخم في أمريكا، بحيث هذا الرقم الشيء البسيط أنّ هذا الطفل الصغير الذي عمره سنة واحدة؛ يحتوي في داخله كما يقولون على ثلاث مليارات وثلاث مائة مليون حرف من حروف السلسلة الوراثية والصبغة الوراثيَّة كما أفاد بعض الباحثين.
كيف صار هذا الخلق العجيب المرتّب العظيم المذهل! هذا الشخص كان في أول أمره مشكّكًا، ولمّا دخل في هذا المشروع ورأى بين عينيه عظمة الله (سبحانه وتعالى) في خلقه رجع مؤمنًا أشدّ الإيمان بالله (عزَّ وجلَّ).
بل أكثر من هذا، فإنَّ نفس رائد المذهب التجريبي فرنسيس بيكو المتوفّى سنة 1626 ميلادية عنده هذه الكلمة أنقلها لك، رائد هذه المدرسة الذي بعض الناس لمّا يتلقّف هذا الكلام، ومع الأسف بعض من ينتسبون إلى هذه الأمة تعلّم له قليل من هذه الأمور فصعّد رأسه (أنا أصبحت ملحد، لا أعترف بوجود الله، ولا كذا، الله لا يوجد...الخ) لماذا؟ لأنَّ العلم لا يثبت ذلك! يا ابني، هذا الذي أسّس الأساس للحضارة الغربية في منهجها ومذهبها الجديد التَّجريبي هذا فرنسيس بيكون يقول: "إذا أمعن العقل النظر وشهد سلسلة الأسباب كيف تتصل حلقاتها فإنه لا يجد بدًّا إلا التسليم بالله تعالى". إذا بحث أحد ورأى حلقات الكون والطبيعة كيف تتصل بنظام لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً ، لابد له أن ينتهي إلى التسليم بالله. إذن لماذا يا فرانسيس بيكون بعض الناس حين يتعلّمون كلمتين يصبحون ملحدين؟! لماذا حين يتخصّصون قليلًا في أول درجات العلم يتركون الإيمان؟ يقول في عبارة أخرى: "وإنّ القليل من الفلسفة والعلم يميل بعقل الإنسان إلى الالحاد"، إذا تعلّم الواحد قليلًا من الفلسفة وقليلاً من العلم يميل عقله إلى الإلحاد، ولكنَّ التعمُّقَ فيها ينتهي بالعقول إلى الإيمان. وهذا تصبر عليه قليلًا ودعه يتخصَّص أكثر، دعه يتعلم أكثر، دعه يتعمَّق أكثر، لابد أن ينتهي إلى التسليم بالله (عزَّ وجلَّ) والإيمان به.
   القرآن الكريم ماذا يقول : "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ"، للذين عندهم عقول مركَّزة متعمقون في الملاحظة والاستنتاج هؤلاء "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا"، ليس عبث ولا من غير نظام ولا يتأخر في شيء عن شيء، "سبحانك فقنا عذاب النار".
هذا في الإجابة النقضية، أول جواب من الناحية الكمية: لو كان التقدم في العلم ينفي الحاجة إلى الارتباط بالدين لوجدنا أنّ العالم اليوم أكثرية ملحدة أو غير مؤمنة والحال أنّنا نجد غير الدينيين هم قلة في هذا العالم حتى 20% لا يصلون اليه.
ومن الناحية الكيفية: لو كان العلم يتعاكس مع الدين كلما زاد علمًا نقص دينًا، كلما تعمّق في العلم ترك الدين، لو كان الأمر كذلك لوجدنا أنّ العلماء الخبراء الفيزيائيين الكيميائيين الرياضيين يتركون الإيمان، ولكنّ العكس هو الأصل عندما يفتح الإنسان بصيرته ، هذا جواب في النقض.
الأجوبة الأخرى لا ترتبط بالحديث معهم وإنما بشكل عام.
الحاجة للدين :
ما هي الحاجة إلى الدين؟ الحاجة إلى الدين تتقوّم بالأمور التالية:
أولاً: الحاجة المعرفية:
يولد الإنسان صغيراً ويكبر بالتدريج فيبدأ عقله يحاول الإجابة عن كل الأسئلة، أول شيء يسأل الابن الصغير ما هذا؟ وما ذاك؟ هذا كله يتلقى من عندك، بعد هذه الفترة هو يحاول أن يوجد إجابات على الأسئلة التي تعترضه، ويبقى السؤال ملازمًا للإنسان إلى آخر حياته هذا الإنسان الطبيعي لا يكف عن السؤال. سواء إن حصل على أحد يسأله أو لم يحصل، حصل على جواب صحيح أو لم يحصل، دائماً ينتج السؤال وتستثيره الأشياء. الجهة الوحيدة لاسيّما كما يطلقون عليها (الأسئلة الكبرى) أسئلة الوجود والمبدأ والمصير والنهايات، لماذا جاء هذا الإنسان ؟ لماذا أتيت؟ من أين أتيت؟ إلى أين أنا سائر وماضي؟ ما هو المراد مني ؟ هذه الأسئلة تبقى مع الإنسان مهما كان في كل أيام حياته.
عبّر عنها شاعر لبنان المعروف إيليا أبو ماضي في شعره الطلاسم :
جئت لا أعلم من أين ولكنّي أتيتُ **
ولقد أبصرت قُدّامي طريقاً فمشيتُ
وسأبقى سائراً  إن شئت هذا أم أبيت **
كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري
ويستمر في هذه التساؤلات، الذي ردّ عليه بعض علمائنا الشعراء، كالسيد محمد صادق بحر العلوم على نفس الطريق ولكن نهاياتها "أنا أعلم"، أنت لست تعلم؟ أنا أعلم وهاك خذ الجواب.
الجهة الوحيدة التي تعرّف الإنسان من أين جاء، لماذا جاء، كيف جاء ؟. إلى الآن غير الدين يتعثّر في السؤال: كيف جاء ما جاء ومن جاء ؟ هذا الوجود كيف وُجد ؟ يتعثرون إلى الآن. أيّ نظرية أتت لا تنسب الأمر إلى الله عزّ وجل تجد أن هذه النظرية لا تحظى بقبول وفيها ثغرات عظيمة. في كل فترة من الفترات الجهة الوحيدة التي تستطيع أن تعرّف الإنسان كيف جاء إلى هذا الوجود وإلى أين هو ماضي ، وماذا يُراد منه ، وهذا الشخص في هذا الوجود ما هو دوره؛ الجهة الوحيدة هي جهة الدين والإيمان حيث يبلّغ الأنبياء عن ربهم كل الأجوبة عن هذه المسائل. ها هو سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين عليه السلام تلميذ رسول الله محمد (ص) يقول: "رحم الله امرءا عرف من أين وفي أين وإلى أين".
إذا أنت وعَيت بهذه الأمور من خلال هداية الدين فأنت مرحوم، من أين مبدؤك ؟ كيف كان ؟ من أين جئت ؟ غاية هذا المجيء لماذا ؟ وفي أين ؟ هذا المحيط الذي تعيش فيه هذا العمر لماذا ؟ وإلى أين غايتك، نهايتك، محشرك، معادك ؟ هل هذه هي نهاية الأمر ؟ سبعين وثمانين وتسعين سنة وانتهى الأمر ! أو لا. الوحيد الذي يستطيع أن يُجيب على مثل هذه الأسئلة هو الدين. فأوّل حاجة هي الحاجة المعرفية.

الحاجة الثانية: الحاجة التشريعية والقانونية:
الإنسان كائنٌ اجتماعيّ يستطيع العيش مع غيره بشكل طبيعي، هذه طبيعة الإنسان هكذا، لمّا يعيش مع غيره يحدث هناك تنافس على المنافع، هذه أرض خصبة أنا أريدها وأنت تريدها، وهذا ماء وفير أنا أريده وأنت تريده، وهذه زوجة جميلة أنا أريدها وأنت تريدها وهذه ثروة أنا أريدها وأنت تريدها، ما هو الناظم الذي ينظم العلاقة بيننا ويشرّع القوانين التي تجعل هذا الإنسان يعيش حياته الاجتماعية بسلام ؟
نحن نقدّم نظرية أنّ الدين هو الذي يصنع ذلك بالنحو الأعلى والأفضل، يقنّن القوانين يشرّع التشريعات يعطي الدساتير ويجعل الناس يمشون عليها. وهذا قد يثير سؤال: نحن نرى أنّ في بعض البلاد الغربية يقولون لك نحن ناس علمانيون، لا نعتمد على الدين في دساتيرنا ولا أنظمتنا ومع ذلك عندهم أنظمة وقوانين راقية وحياتهم الاجتماعية حياة متقدمة، فإذًن لا حاجة إلى الدين .
جواب ذلك: آخر ما وصل إليه الإنسان في الغرب وفي غيره هو نتاج عقلي، جرّب الإنسان الفوضى خلال فترات زمنية مختلفة، انتهى العقلاء في هذا المجتمع البشري إلى أنّ النظام هو الذي يصون المصالح فتركوا الفوضى لصالح النظام . جربوا التظالم فما بينهم، واحد يظلم الثاني رأوا أنّ ثمنه باهظًا فانتهوا إلى أن العدالة هي التي تصون الحقوق فقرّروا العدالة كقانون، وعلى هذا المعدل.
     حسناً، هذا الذي انتهى إليه المجتمع البشري بعد تجارب وبعد محاولات وبعد تضحيات وبعد مرور السنوات قالته الأديان السماوية من زمان ، قالت: "الله الله في نظم أمركم" ، قالت: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ" ، آخر ما وصل اليه عقلاء البشر هو أول ما جاء به الأنبياء والأديان من دون تجارب من دون مذابح من دون خسائر. وإلى هذا يشير أحد الفيزيائيين العظماء الألمان اسمه ماكس ويبر متوفى سنة 1918م معروف في الفيزياء يقول هذا المعنى: "إنّ جميع المثل العالية الموجودة في الحضارة الغربية من نظام واتّحاد واقتصاد وسياسة وعلم واستقلال؛  كل هذه القيم العالية لها جذور في الديانة المسيحية".
 نحن نقول هذا والديانة المسيحية الموجودة في الغرب ليست هي الديانة الكاملة وإنما حرّفت نسبياً ومع ذلك أنتجت هذه القيم العالية، فكيف لو كان هؤلاء لديهم الديانة الأصلية وكيف لو كان لديهم الديانة الكاملة وهي ديانة الإسلام ؟ فإذا كان وجود هذه الأنظمة في البلاد المتقدمة لا يعني أنها بمعزل عن الدين، ما انتهوا إليه أخيرًا بعد محاولات وتجارب وتضحيات هو أول ما بدأ به الأنبياء من دون هذه التجارب ومن دون هذه التضحيات. بفارق أن هذه الأنظمة تختلف عن الأنظمة الدينية بماذا؟ بأن هذه الأنظمة تضبط ظاهر الإنسان ولا تستطيع أن تؤثرعلى داخله، ولذلك بعضهم يقول أنت اسرق - في مثل هذه المجتمعات - ولكن لا تخلّف وراءك أثر. لا تطلب في الرشوة شيك لا تصبح بهيم – حسب تعبير ذاك – تطلب شيك وبعدها يذهبون ويتابعون رقم الشيك ويورطوك، اطلب نقد . في فلان موضوع اسرق ولكن لا تخلّف وراءك أثر اتلف الملفات.
هذا النظام الوضعي لا يستطيع أن يفعل شيء، يستطيع أن يرى وثائق وحقائق أمامه يعاقبك فيها إذا فعلت شيء أكثر من هذا لا يستطيع ، لكن النظام الديني في التشريع والقانون يختلف حتى لو لم تترك أثراً فإن الأثر مسجّل عند الله (عزَّ وجلَّ): "مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا" ، يذهب إلى داخل قلب الإنسان: "وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ" .
    وهنا تأتي أهمية صوم شهر رمضان، ففي شهر رمضان أنت في بيتك لا أحد يعلم عنك تستطيع أن تقفل الغرفة ولكن يمنعك عن ارتكاب المفطر المحرّم خشية الله عز وجل وخوف الله (عزَّ وجلَّ) فإذا أنت متديّن حقيقي لن ترتكب هذا. نعم هناك قسم من الناس يستترون عن الناس ولكن هذا ليس هو المتدين الحقيقي. سامعين قصة الامام الصادق (عليه السلام) التي ذكرها لأحدهم أختصرها لكم:
 ((( دخل أحدهم على الامام الصادق وكان من أصحابه فالإمام الصادق بعد أن استقصى أحواله سأله عن عائلته وأهله قال عندي أخ نعم الأخ رجل طيب عامل للخير مؤمن إلا أنه لا يرى ولايتكم . يعني عيبه أنه ليس على منهج أهل البيت . فالإمام قال له : وما يمنعه من ذلك ؟ يعني لماذا لا يؤمن بولايتنا ، قال : قلت له في هذا الأمر فقال أنه يتورع . -انسان ورع ومطوع- يقول مالي بهذه البلاءات التي من جهة جعفر بن محمد وجماعته فقال له الامام الصادق : سلم عليه وقل له يقول لك جعفر أين كان ورعك على نهر بلخ ؟ يقول أنا ذهبت وقلت لأخي: أنا قلت لفلان وبلغني رسالة قال لي أقول لك أين كان ورعك على نهر بلخ؟ يقول امتقع لونه قلت له أخبرني ما القضية ؟ أراد أن يلفلفها فقلت له : إذا لم تخبرني أذهب وأستخبر من الإمام الصادق، فقال لي أقول لك أنا كنت ذاهب في سفر مع أحد من أصحابي فوصلنا إلى نهر بلخ قرب افغانستان وكان عند صاحبي جارية فصار وقت الظهر وطعامنا نفذ فقال لي أمّا أن تذهب إلى البلدة تشتري لنا ونواصل مشوارنا أو أنا اذهب وأنت تصير أمين على الأموال وعلى الجارية . فقلت له : أنت أنشط مني في حركتك وأنت شاب أنت اذهب، فلما ذهب جلست مع الجارية في مكان لا يوجد فيه أحد فوسوس لي الشيطان وبالتالي قمت وفعلت معها الفعل القبيح وقلت لها لا تخبري أحد . واذا فضحتيني أفضحك ولم يعلم بهذه القضية الا الله سبحانه وتعإلى، هذا صاحبك كيف علم ؟ أشهد أنه إمام حق عن الله عز وجل.)))
   اختبار الإنسان ليس إذا أمامه جماعة وهيئة مراقبة وهيئة تفتيش فساد، اختبار الإنسان على نهر بلخ، اختبار الإنسان عند الانفراد، اختبار الإنسان عندما لا يُرى، في ذلك الوقت "فاستعصَم" كيوسف عليه السلام ؟ أو لا، يُقدم على الأمر ولا تترك أثر وراءك، افعل الفعل القبيح ولكن امح آثارك وبصماتك، هذا أو ذاك؟
الدين يفترض أن يصنع هكذا انسان. فإحدى الحاجات حاجة تشريعية وقانونية .
الحاجة النفسية والروحية :
     وهناك أيضاً حاجة نفسية وروحية وننهي بها حديثنا إن شاء الله. هذا الإنسان أنا وأنت من أضعف ما يكون ونحن لا نشعر، والله يقول: أنتم أقوياء، أغنياء، مقتدرون؟ "أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلى اللَّهِ" ، أنت فقرٌ مطلق أنت عجزٌ مطلق إذا تقوم فبحول الله وقوته أقوم وأقعد، إذا يحدث عندي شيء ف "هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ" ، إذا عندك صحة: "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" ، التفت إلى نفسك أيها الإنسان، ليس الميكروب، فالميكروب كبير جداً على الفيروس، هما كالفيل والفأرة . ليس المكروب الذي هو بالنسبة للفيروس بحجم الفيل يُسقطك فقط ، لا؛ بل حتى الفأرة تسقطك، فيروس أصغر بمرات من الميكروب ومع ذلك إذا أتى أسقط الإنسان. مسكين صار له خمسة أيام على الفراشّ! ماذا عندك ؟ انفلونزا ، هذا فيروس هذا حتى المضاد لا ينفع فيه، المضاد الحيوي يفيد للبكتيريا لا يفيد للفيروسات، لأنها أصغر وأدقّ.
    وهذا أنت إذا أحاطت بك المصائب وإذا احاطت بك الآلام وإذا صرت وحدك في داخل سجن الطواغيت هناك تحتاج إلى "أَوْ آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ" ، تحتاج إلى أن توجه بصرك إلى السماء: "أَنْتَ كَهْفِي حِينَ تُعْيِينِي المَذاهِبُ فِي سَعَتِها، وَتَضِيقُ بِيَ الأَرْضُ بِرُحْبِها، وَلَوْلا رَحْمَتُكَ لَكُنْتُ مِنَ الهالِكِينَ. وَأَنْ تقيلُ عَثْرَتِي، وَلَوْلا سَتْرُكَ إِيَّايَ لَكُنْتُ مِنْ المَفْضُوحِينَ، وَأَنْتَ مُؤَيِّدِي بِالنَّصْرِ عَلى أَعْدائِي، وَلْولا نَصْرُكَ إِيَّايَ لَكُنْتُ مِنَ المَغْلُوبِينَ" .
هذه حاجة الإنسان إلى من يسنده في هذه الحياة، يرفعه من هذه الوقعة، من هذه الأرض من هذا الألم، من تضعضع نفسه، من ظالم يتسلّط عليه ويذيقه أشد ألوان العذاب حتى يكون الموت أحب إليه من الحياة. من مرض يثقله - الله يفرّج عن المرضى لا سيّما مرضى السرطان هؤلاء حقاً الله يعينهم ويشبعهم بالأمل ويشفيهم مما هم فيه - أنت ترى كيف هذه البندول العقار ببعضهم هكذا يحسب ساعاته وأيامه متى يخلص هذا العمر وينتهي هذه حياة مؤذية ومؤلمة.
وقسم منهم لا، بحول الله، بقوة الله، بالأمل بالله عزّ وجل تجدهم أقوياء تجدهم آملين. هذا الإنسان يحتاج إلى الدين لأنه يحتاج إلى الارتباط بالله ويتعلق بالله سبحانه وتعإلى. "يا مَنْ تُحَلُّ بِهِ عُقَدُ المَكارِهِ، وَيا مَنْ يُفْثَأُ بِهِ حَدُّ الشَّدآئدِ، وَيا مَنْ يُلْتَمَسُ مِنْهُ المخْرَجُ إلى رَوْحِ الفَرَجِ؛ ذَلَّتْ لِقُدْرَتِكَ الصِّعابُ؛ وَتَسَبَّبَتْ بِلُطْفِكَ الأسْبابُ؛ وَجَرى بِقُدْرَتِكَ القَضآءُ وَمَضَتْ عَلى إرادَتِكَ الأشْياءُ، فَهِيَ بِمَشِيَّتِكَ دُونَ قَوْلِكَ مُؤْتَمِرَةٌ، وَبإرادَتِكَ دُونَ نَهْيِكَ مُنْزَجِرَةٌ، أنْتَ المَدْعُوُّ لِلْمُهِمّاتِ" .
تريد رزق؟ ذاك باب الرزق، تريد صحة؟ ذاك باب الصحة، انسدّ عليك باب الولد والبنين ؟ هو يرزق من يشاء، "يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور" أو يعطيهم من هذا وهذا أو يزوّجهم ذكراناً وإناثاً.
عندك أحد مسجون، محاصر ؟ هذا باب الفرج عند الله سبحانه وتعإلى ارفع يدك "وقد نزل بي يا إلهي ما قد تكأدني ثقله ... وأنت القادر على ذلك".
 لا يوجد أحد يستطيع، إنّ فعل إرادتك فوق كل إرادة ومشيّتك فوق كل مشيّة والفرج يُترقّب منك لا من غيرك.

 
 

 

 

مرات العرض: 3390
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2554) حجم الملف: 55471.07 KB
تشغيل:

العهد القديم ماذا حرف منه وماذا سلم
نساء خالدات في الأديان السماوية