أبي بن كعب سيد القرّاء
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 29/9/1435 هـ
تعريف:

أُبَيّ بن كعب سيد القُرّاء


كتابة الفاضلتين زينب أل ليث ورباب محيسن
تصحيح الاخت الفاضلة أفراح آل ابراهيم


قال الله العلي العظيم ((إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ))١

حديثنا بإذن الله تعالى يتناول شخصية سيد القراء أبي بن كعب ابن قيس النجاري الأنصاري الخزرجي المدني المتوفى في حدود سنة اثنين وعشرين للهجرة النبوية وحيث أنّ عنوان هذا الصحابي الجليل يرتبط بالقرآن الكريم وعرف بأنّه سيد القراء لابدّ أن نشير إلى قيمة الاهتمام القرآن الكريم  ولو على سبيل الاختصار .
يتمتّع القران الكريم في الحالة الإسلامية وفي الذهنية الإسلامية بمنزلة كبيرة جدًا فهو :

1/  من الناحية العقائدية معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وآله.
2/ وهو بالإضافة إلى ذلك منبع الأحكام والحجة عليها والدليل الذي ينتفع به ، والمستنبط والفقيه في اكتشاف واستنباط الأحكام باستمرار للقضايا المتجدّدة،  إضافة إلى ما فيه من معارف أخلاقية ودينية وتاريخية .
3/ ولكنّ أفضل وصفٍ وصف القران نفسه به هو قول الله عز وجل (إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )
رسالة هذا القرآن أن يصنع للإنسانية الحياة الفاضلة في هذه الدنيا ، وفي نفس الوقت هو مبشر بأنّ للمومنين العاملين للصالحات أجرًا كبيرًا في يوم القيامة .

أوجه اهتمام المسلمين بالقرآن 

 لهذا تعدّدت أوجه الاهتمام بالقرآن الكريم من قبل الأمة  كالاهتمام  بتلاوته . وبفضل الله وحمده لازالت الأمسيات القرآنية في شهر رمضان  تشهد إقبالًا جيدًا  من قبل أكثر الناس ، إذ أنّ أكثر المسلمين يحرصون على أن يتمّوا ولو ختمةً واحدةً للقرآن الكريم في هذا الشهر المبارك. ولاريب أنّ قراءة القرآن الكريم بمجردها  تصنع تأثيرًا وتصنع أثرًا في داخل قلب الإنسان  وبصيرته، وعلى العكس إن هُجِرَ القرآن فإنّه يترك أثرًا سيئًا ، ويزداد هذا التأثير كلما تأمّل الإنسان في القرآن وتدبّر في آياته وعرف معانيه ، وقام بتطبيق ما فهم منه  على حياته الفردية والاجتماعية.
و هذا من أوجه اهتمام المسلمين بالقرآن الكريم ، وكذلك  من أوجه حفظ القرآن الكريم انبعاث فئةٍ من الناس لاسيما من اتّصف بحافظة جيدة ، قد  انبعثوا لحفظ بعض أجزاء القرآن الكريم وهذا امرٌ جيدٌ وممدوحٌ ومستحب ، وانبعثت جماعة أخرى من العلماء إلى الدأب على تفسير آياته وتبيينها لعامة الناس، كما انبعث الفقهاء لبيان ماجاء من أحكامٍ في آيات القرآن الكريم
فألفوا كتبًا كثيرة حول آيات الأحكام وما يستنبط منها .
وهناك جوانب أخرى مختلفة من الاهتمام ، منها مايبذله  أصحاب الأموال في سبيل طباعة القرآن الكريم ، حيث قام بعض المؤمنين بالتبرّع لإنشاء دور للقرآن الكريم، وتشجيع الدورات القرآنية والتحفيز عليها  باصطناع المسابقات ودعمها ماديًا ، وهذه كلها أعمال خيّرة ومطلوبة.
و لكن أهم هذه الأمور فيما نعتقد هو ما يرتبط بالقرآن الكريم في جانب المعنى، حيث أنّ التجويد من الأمور المهمة وكذلك معرفة أحكامه ، ومراعاة التلاوة المحسنة والمجوّدة والأصوات الرائعة ،وكذلك الاهتمام بطباعة القرآن ، كلّ هذه الأمور مهمة ومطلوبة  إلا أنّ الأمر الأهم من كل ذلك عند الموازنة والمقايسة هو فهم معاني آيات القرآن الكريم ، وهو الذي يكلّف الإنسان به ويُسأل عنه، لذلك نعى القرآن الكريم على الناس أو على بعضهم أنّهم لا يتدبرون في القرآن أو أنهم لا يتعلّمونه ، و لا يتعقّلونه كما ورد في آيات كثيرة .

في تاريخ المسلمين وجدنا أيضًا الأنماط المختلفة  ،وجدنا من هو حافظ للقرآن أو لبعض أجزائه ، وهذه الطريقة كانت لاسيما في تلك الأزمنة تشكّل مرتبة مهمة لأنّ القرآن الكريم لم يكن متوفرًا بنسخٍ كثيرة كالتي نجدها في هذه الأزمنة ، فحفظ الإنسان للقرآن الكريم في ذلك الزمان يعني إعطاء فرصة إضافية لخلود القران الكريم وبقائه (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون )٢ أحد طرق حفظه بين الأجيال هو أن يحفظه السابقون ويؤدّونه إلى اللاحقين ، وهذا الأمر كان له أهمية  استثنائية في ذلك الزمان وهؤلاء الحفظة كان يطلق عليهم بأنّ (فلان جمع القرآن) أي حفظه بتمامه ، كان بعض هؤلاء بالإضافة إلى حفظهم للقرآن الكريم كانوا يعرفون معانيه، وقد أخذوها عن رسول الله ( ص ) أو تأمّلوا فيها وتعرّفوا عليها

قراءة أبي بن كعب هي المفضلة عند أهل البيت
 وكان في طليعة هؤلاء سيد القراء أبي بن كعب ابن قيس الأنصاري رضوان الله تعالى عليه أحد السابقين إلى معرفة أمير المؤمنين وأحد الموالين لهذا الإمام العظيم ، أبي بن كعب كان قد شهد مع رسول الله كل غزواته ، وأصيب في غزوة الخندق إصابة بسهم وأرسل له رسول الله طبيبًا حتى عالجه، ويظهر من بعض القرائن أنّ النبي (صلى الله عليه وآله ) كان يختصّه بالذات في موضوع القرآن الكريم فقد نقل في الروايات وهي واردة من طريق مدرسة الخلفاء ومن
طريق  مدرسة أهل البيت عليهم السلام أنّ رسول الله استدعى أبي عندما نزلت سورة البينة ،
عن مالك بن عمرو بن ثابت الأنصاري قال ( لما نزلت  (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب )سورة البينة ، قال جبرائيل يارسول الله إنّ ربك يأمرك ان تقرئها أبيًا ، فقال النبي لأبي (  إنّ جبرئيل أمرني أن أقرئك هذه السورة )
قال أبي : وقد ذكرت ثم يارسول الله ؟ قال نعم فبكي أبي ، وفي رواية قال أبي :وسمّاني لك؟ قال نعم )٣
لقد  فاضت عيناه بكاءًا إذ أنّه شعر أنّها منزلة  عظيمة ولم تكن منزلة عادية ،  ولهذا لما نزلت السورة المباركة سورة البينة ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة )فاضت عيناه فربت رسول الله على كتفه وقال (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )٤
يعني أنت الذي ذكرت في الملأ الأعلى هذه مرتبة دونها مراتب الأغنياء والأموال المجموعة ، لأنّ من الصحابة كان كذلك ترك خلفه من الأموال من الذهب  ما يكسّر بالفؤوس حتى يقسّم على ورثته ، وأبي بن كعب يذكر من قبل الله عز وجل ويوصى النبي بأن تتلى الآية عليه ! هذا شيئ عظيم ، بل هو تلقى هذا الكتاب هذا القرآن الكريم من فم رسول الله  طازجًا سليمًا لم تدخل فيه أي قرآءة أخرى ولا تشويش .
ولذلك فالمروي من طريق مدرسة أهل البيت عليهم السلام عن الإمام الصادق عليه السلام قوله آنا نقرأ قراءة أبي ، باعتبار أنّه
كان في  ذلك الوقت  أشكال مختلفة من القراءآت و فيها تغيير لبعض الحروف،  وفيها تغيير لبعض الكلمات ، مع لحاظ أنّ قول الإمام الصادق عليه السلام  إنا نقرأ قراءة أبي ابن كعب هذا لا يعني  أنّ أبي أعلم من الإمام الصادق ومن الائمة عليهم السلام ، وإنّما كان أمر التنافس بحسب التعبير في ذلك الوقت في العصر الإسلامي الأول  كان بين  قراءة عبد الله بن مسعود وبين قراءة زيد ابن ثابت وبين قراءة أبي ابن كعب .
وقد اختارت  الخلافة في زمان عثمان بن عفان قراءة زيد ابن ثابت على أنّها القراءة الرسمية . و الإمام الصادق عليه السلام  بهذا المعنى يقول القراءة السليمة الخالية من الزيادة والنقيصة وغير ذلك هي القراءة التي يقرأ بها أبي بن كعب ، وهذا الكلام  نوع من الإمضاء لهذه القراءة التي كانت لديه ..
وقد حظي أبي بنوع من الاختصاص لدى رسول الله ، فقد أتاه يوما يسأله : أي آية في كتاب الله أعظم ؟
( عن أبي بن كعب قال:قال لي رسول الله يا أبا المنذر أي آيةٍ معك من كتاب الله اعظم ؟فقلت  ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم )فضرب في صدري فقال لهنئك العلم ، فوالذي نفسي بيده إنّها للسانًا وشفتين ، تقدس الملك عند ساق العرش ) ٥
يعني آية الكرسي وهو ما يتطابق مع الموجود في مدرسة أهل البيت من عظمة آية الكرسي ، إذ أنّلها مدخلية في كثير من الصلوات وفي كثير من الأذكار وفي كثير من الأعمال .
إنّ معرفة أبي بهذه الأمور إنما هو نتيجة  استماعه و طول مجالسته لرسول الله ، و ارتباطه بأهل البيت عليهم السلام والنص على أنه ضمن هذا الإطار .
نحن نجد بالإضافة إلى ذلك ذكر علمائنا بهذا المعنى مثل الشريف المرتضى علم الهدى رضوان الله تعالى عليه الذي نصّ على هذا الأمر بالإضافة إلى ذلك وجدنا أنّ موقفه في ما بعد وفاة رسول الله كان مشيرًا إلى هذا المعنى،وكذلك  فتاواه التي يفتي بها نلاحظ أنّها منسجمة مع فقه أهل البيت عليهم السلام في الإجمال .

نقل أبي كيفية صلاة الآيات عن رسول الله
فعلى سبيل المثال هو ينقل طريقة صلاة الآيات كما رآها من رسول الله وهي مخالفة للموجود عند أتباع مدرسة الخلفاء وموافقة للموجود عند مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، إذ أنّها ركعتان بخمس ركوعات في كل ركعةٍ ، في الركعة الأولى فيها  خمس ركوعات وكذلك في  الركعة الثانية أيضًا  خمس ركوعات ، وهذا هو نصّ مانقله أبي ابن كعب ( انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وركع خمس ركعات وسجد سجدتين ) ٦
 ، بينما كان الرأي المعروف والمشهور لدى مدرسة الخلفاء أنّ صلاة الآيات هي كصلاة الصبح تماما ركعتان عاديتان ليس فيها أي زيادة عن صلاة الصبح ، بينما نرى أبي بن كعب ينقل لنا الصورة الصحيحة عن رسول الله وهي الصورة التي يلتزم بها أتباع الإمامية صلوات الله عليهم  .

موقف أبي بعد وفاة رسول الله
 كان أبي بن كعب من المحتجين الأوائل على قيام الخليفة الأول على منبر رسول الله بل لديه خطبة طويلة مفصلة،  وفيما بعد وجدنا شيئًا أكثر من هذا في زمان الخليفة الثالث ، فقد روي عنه قوله في المسجد (  ألا هلك اهل العقدة ، والله ما آسى عليهم إنما آسى على من يضلون من الناس فقيل له : من هؤلاء أهل العقدة؟وماعقدتهم؟ ققال: قوم تعاقدوا بينهم إن مات رسول الله لم يورثوا احدًا من أهل بيته ولا ولوهم مقامه، أما والله لئن عشت إلى يوم الجمعة لأقومنّ فيهم مقامًا أبين به للناس أمرهم )٧
كما أنّ لأبي موقفان سوف نقرأ شيئا من نصهما ، حيث  أنّ الخليفة الأول لما بدأ في أول صلاة احتجّ عليه مباشرة اثنا عشر رجلٍ منهم من المهاجرين كأبي ذر وكعمار وكسلمان وكالمقداد وأمثالهم ، ومنهم من  الأنصار مثل خزيمة ابن ثابت و بريدة الأسلمي ، وكذلك مدنيون مثل أبي ابن كعب وسهل ابن حنيف  ، وقد احتجّ أبي بقوله ;
(يا أبا بكر لا تجحد حقا جعله الله لغيرك ولا تكن أول من عصى رسول الله في وصيه وصفيه  (يعني الإمام علي عليه السلام) وصدف عن أمره ، اردد الحق إل أهله تسلم  ولا تتماد في غيك فتندم ، وبادر  الإنابة يخف وزرك ولا تخصص بهذا  الأمر الذي لم يجعله الله لك نفسك فتلقى وبال عملك (يعني لا تخصص نفسك بهذا الأمر  فتلقى وبال عملك) فعن قليل تفارق ما أنت فيه وتصير إلى ربك فيسألك عما جنيت وما ربك بظلام للعبيد ) ٨

هذا النص منقول في كثيرّ من مصادر مدرسة أهل البيت عليهم السلام  منها كتاب الخصال للشيخ الصدوق رضوان الله تعالى عليه يذكره بسنده إلى من كان حاضرًا في هذا المشهد إ، فكان هذا الرجل من أوائل المحتجين على تنحية أمير المؤمنين عن الخلافة وقد نقلت له خطبة  في أول جمعة من شهر رمضان  ينقلها الشيخ الطبرسي في كتابه الإحتجاج قال: ( لما خطب  أبو بكر قام إليه أبي ابن كعب و كان يوم الجمعة أول يوم من شهر رمضان فقال : ( يا معشر المهاجرين الذين هاجروا واتبعوا مرضات الرحمان، وأثنى الله عليهم في القرآن، ويا معشر الأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان وأثنى الله عليهم في القرآن، تناسيتم  أم نسيتم أم بدلتم ، أم غيرتم ، أم خذلتم أم عجزتم، ألستم تعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قام فينا مقامًا ، أقام لنا عليًا عليه السلام فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه ومن كنت أنا نبيه فهذا أميره، ألستم تعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: يا علي، أنت مني بمنزلة هارون من موسى طاعتك واجبة على من بعدي كطاعتي في حياتي غير أنّه لا شيء بعدي؟
 ألستم تعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أوصيكم بأهل بيتي خيرًا ، فقدّموهم ولا تقدموهم، وأمروهم ولا تأمروا عليهم.؟
أو لستم تعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أهل بيتي منار الهدى والدّالون على الله ،  ألستم تعلمون أنّ رسول الله قال لعلي أنت الهادي لمن ضل ؟ ألستم تعلمون أنّ رسول الله قال عليٌ المحيي لسنتي ومعلّم أمتي والقائم بحجتي وخير من أخلّف من بعدي وسيد أهل بيتي وأحبّ الناس إلى طاعته كطاعتي على امتي .  )  ٩ إلى آخره..

الخطاب طويل لا نستطيع أن نقرؤه بالكامل، لكنه يشير إلى أنّ هذا  الرجل لم يقف هذا الموقف في أول يوم  فقط من الخلافة والخليفة الأول، وإنما استمرّ عليه بلحاظ أنّ النبي "ص" استشهد في أواخر شهر صفر، والخلافة تمت في أوائل ربيع الأول بالتالي خلال الأيام الأولى و الأسبوع الأول من شهر ربيع، من شهر ربيع الشهر الثالث إلى شهر رمضان الشهر التاسع تكون المدة ستة أشهر، وهو مع ذلك لا تزال القضية حاضرة لديه ولا يزال الأمر محل كلام ومحل نصيحة ومحل إشارة من قبله ، وقد تحدّث في المسجد حيث كان الناس حاضرين ، إذ خطب في الأنصار والمهاجرين، وهذا يبيّن مقدار ولائه لأمير المؤمنين "ع".
وهو معروف بأنّه من القائلين بتفضيل علي "ع" كما يقول أكثر من كتب في سيرته، ومنهم ابن أبي الحديد المعتزلي شارح نهج البلاغة، وكذلك  الشافعي أيضًا يذكر أنّ أبي بن كعب كان يرى أنّ عليًا أفضل صحابة رسول الله "صلى الله عليه وآله"، بل أكثر من هذا بناء على هذه الخطبة التي نُقلت عنه يراه هو المتعيّن من قِبل رسول الله "ص"، بل يراه هو الوحيد الصالح وغيره جاء بلا صلاحيةٍ له لهذا المنصب، هكذا إذن نرى هذا الرجل "أُبي" كان بهذا المستوى من الولاء ومن التوجّه لأهل البيت "ع".
لذلك يمكن للإنسان أن يقف موقف التأمل ممّا روته بعض مصادر مدرسة الخلفاء، كما جاء في سنن أبي داوود من أنّ أبي بن كعب عُيّن من قِبل الخليفة الثاني ليؤمّ الناس في صلاة النافلة في الليل، فبالرغم من أنّ الخليفة الثاني كان يقدّر موقع وعِلم أُبي بن كعب وربما تبيّن ذلك في كثير من  الروايات ، ومنها عندما جاء إليه وقال له الآية المباركة: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ" وسأله: أيّنا لم يظلم؟
أي لا يوجد أحد عندنا إلا وقد قارف ظلمًا، قارف معصية، ظلم زوجته، ظلم إخوانه، بالتالي لا أحد يدخل الجنة، فقال له أُبي: كلا إنّ الظلم هنا ما أشار إليه الله تعالى في سورة لقمان " لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" ١٠
يعني الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بشركٍ وإلاّ عامة الناس يظلمون، يظلمون أنفسهم بالمعصية ، ويظلمون غيرهم بأخذ حقوقهم، ولم يستثنى من هذا سوى المعصومين "ع" .

وفي موردٍ آخر يُنقل أنّ عمر أراد أن يوزّع ما في خزينة الكعبة، وقال: إنّي أريد أن أعمد إلى ما في الكعبة من بيضاء وصفراء فأوزّعه على المسلمين، فيها ذهب فيها فضة لا تستفيد منه الكعبة فسأوزعه على المسلمين، فقال له أُبي: ما ذلك لك، قال: كيف؟ قال: لأنّ الله عز وجل لم يُهمل مالاً إلا وعرّف الحق فيه وجاء رسول الله "ص" وكانت هذه الأموال موجودة أيضًا في الكعبة، فلم يقل القرآن الكريم بتوزيعها ، ولم يقل يتوزيعها  على الناس ، وكذلك رسول الله لم يحرّكها من مكانها، فلماذا تفعل ذلك ؟ ما ذلك لك)  فامتنع  عمر عن القيام بالأمر نظرًا لأنه واجه منطقًا من أُبي بن كعب.

أبي بن كعب وصلاة النافلة

من الواضح أنّ موقع أُبي من الناحية العلمية كونه قارئًا للقرآن جامعًا له ، حافظًا إياه وعارفًا بمعانيه حتى عُرف بسيد القرّاء ، لكن الأخبار تنقل أنّ عمر أوكل إليه صلاة الجماعة نافلةً،فكيف يكون تفسير هذا الأمر؟؟
 هذا الأمر إما أن نفسّره بأنّ هذا لم يثبت وبالتالي يكون من طريق المدرسة الأخرى إذ أنّ الرجل منهجه مختلف عن منهج المدرسة الأخرى حيث أنّه  يسلك سبيل   مدرسة أهل البيت "ع"، ومدرسة أهل البيت "ع" ترى لا سيما مع قول إمامها أمير المؤمنين "ع" أنّه لا جماعة في النافلة وأنّه من البدع ولا صحة له ، ويلتزم أتباع أهل البيت "ع" هذا الأمر إلى يومنا هذا في عدم جواز صلاة النافلة جماعة ، أما الصلوات التي عرض عليها النفل فيما بعد مثل صلاة العيدين، فإنّها في الأصل لدينا واجبة على الجميع في زمن الحضور ، لكنها في هذه الأزمنة مستحبة استحبابًا مؤكدًا ، فهي في الأصل واجبة لكنها  على أثر ظرفٍ معين أصبحت مستحبة، وأصبحت  تُصلى جماعة، وأما صلوات النوافل اليومية مثل نوافل الظهر و نوافل العصر ونوافل المغرب و العشاء، فإنّ الجماعة فيها غير مشروعة.
أما بعض الصلوات النافلة أقيمت جماعة  لأنّ كيفيتها غير معروفة لمجموعة كبيرة  من الناس لذا يصلّونها متابعةً، إذ أنّ البعض لا يحفظ الآيات التي تُذكر، ولا يعرف الأذكار التي تُقال فيعتمد في ذلك على من هو أحفظ وأعرف بها منه ، ويتابعه في القراءة، وهذه الصلاة  ليست صلاة جماعة ولا تنطبق عليها أيّ حكمّ من أحكام الجماعة، لذا نحن في مقام التأمّل والتحقق  قبل قبول مثل هذه الرواية التي تقول أن أبي بن كعب كان يصلي جماعةً ما يُسمى بصلاة التراويح التي جاء بها الخليفة الثاني وجعلها في صورة الجماعة، مع أنّها في مدرسة الإمامية الجماعة في النافلة غير مشروعة.
وإن قال أحدهم أنّ أبي في ذلك الوقت لم يكن يعرف مثل هذا الحكم حيث أنّ إشاعة هذا الأمر كانت من قبل  أمير المؤمنين "ع" في وقتٍ متأخر  أنّها من البدعة  وغير صحيح، إذا أمكن توجيهه بهذا التوجيه وإلا فللتأمل مجالٌ في أصل الخبر، ولا يوجد مصدر عن طريق أهل البيت يروي هذا الخبر ، إنّما هو واردٌ عن طريق المدرسة الأخرى.

الخليفة الثالث وأبي بن كعب

الخليفة الثالث كان يُفضّل زيد بن ثابت على باقي القرّاء، وقد يكون لميولهم الولائية أثرٌ في ذلك،
  عبد الله بن مسعود يقول: ( لقد قرات القرآن من فيّ رسول الله سبعين سورة وإنّ لزيد بن ثابت له  ذؤابتان يلعب مع الصبيان )١١
فكيف يكون  الآن في زمان الخليفة الثالث هو المسؤول عن الموسوعة القرآنية؟ هذا ليس من العدل، لذا كان يقف عبد الله بن مسعود موقفًا سلبيًا من الخليفة ، لذا تعرّض للأذى بسبب  مواقفه وانتقاداته.
وكذلك أبي بن كعب كان يقف  نفس الموقف  حتى نقل بعض الرواة أنه تمّ منع العطاء  عنه لمدة  من الزمن من قِبل الخلافة كموقف عدائي ، إضافة إلى حرمانه من الخراج،لكنّ الرجل بقي ثابتًا على ولاء آل محمد "ص".
لكنه لم يُدرك خلافة امير المؤمنين عليه السلام باعتبار أنه توفي في السنة الثانية والعشرين للهجرة ،  وقد اختلف في تاريخ وفاته فمن قائل أنّه توفي في السنة الثانية والعشرين ، ومن قائل أنّه توفي السنة الثامنة عشرة ، وقيل قبل ذلك ،  ولكن الأرجح أنّه توفي في السنة الثانية والعشرين للهجرة ،  وبالتالي لم يُدرك خلافة أمير المؤمنين "ع" ولم يحظ بهذا الشرف في مناصرة أمير المؤمنين  "عليه السلام" عمليًا، لكنه   لم يقصّر في نصرته قوليًا إذ كان يتحدّث عن أمير المؤمنين مبيّنًا صفاته ، ناقلًا  أحاديث الرسول "ص" حوله، مع ملاحظة  أنّ بعض الأحاديث التي وردت في هذه الخطبة الموجودة لم تُنقل عن غيره، وليست مشهورة   وربما يكون قد أخذها بشكلٍ خاصٍ عن رسول الله "صلى الله عليه وآله ".

أبي بن كعب والإمام الحسين عليه السلام

مما يُنقل أيضًا عنه وله حضورٌ فيه حديث رسول الله "ص" في الحسين "عليه السلام"، وهذه الرواية منقولة عن الإمام الحسين "عليه السلام " وهي أيضًا تشير إلى حضور أبي بن كعب.
الإمام الحسين "ع" يقول: "دخلتُ ذات يومٍ على جدي رسول الله "ص" فإذا به عنده أُبي بن كعب فقال لي رسول الله "ص": مرحبًا بك يا ولدي يا زين السماوات والأرض.
 لاحظ ابي بن كعب أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله يخاطب الإمام الحسين "عليه السلام" بأنّه زين السماوات والأرض زينتها وزينها – إلى رسول الله "ص" فقال له: يا رسول الله "ص" وهل هناك زينٌ للسماوات والأرض غيرك؟ -  فقال "ص": يا أبي والذي بعثني بالحق نبيًا إنّ الحسين بن علي  في السماء أكبر منه في الأرض، وإنّه  لمكتوب على يمين عرش الله عز وجل الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة)١٢
هنا وردت لفظة "يمين عرش الله"لابد ّ من حمل موضوعها على نحوٍ من التمثيل والتأويل،  نظرًا لأننا نعتقد وعليه العدلية عمومًا وليس فقط الشيعة – الشيعة ومعهم المعتزلة وغيرهم – أنّ العرش ليس شيئًا مجسمًا والله يجلس عليه، وإلا لو التزم بهذا لكان العرش أكبر من الله عز وجل والله أكبر، ولكان الله (والعياذ بالله ) مُحتوى من قِبل شيء، كما يحتوي البشر العادي الكرسي ، إلا أنّ الله سبحانه وتعالى لا شيء يحتويه، لا زمان ولا مكان ولا شيء، ولهذا كلّ ما ورد سواء آيةٍ قرآنية أو حديث نبوي أو حديث عن معصوم إذا جاء فيه إشارة ظاهرها إلى قضية التجسيد وتجسيم الله وأنّه في مكانٍ أو على مكانٍ أو تحت مكانٍ ينبغي تأويلها ، لقيام الدليل العقلي على أنّ الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء ولا يحيط به الزمان ولا المكان ولا الأشياء،.
فـ"مكتوبٌ على ساق العرش" يعني ذلك المكان الذي يمثّل السيطرة على الكون في جهته المهمة مكتوبٌ "الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة"، وهذا أيضًا يرويه أبي بن كعب باعتبار أنّه كان حاضرًا لهذا المشهد وسامعًا لكلام رسول الله "ص".
نسال الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المستضيئين بهذا المصباح الحسيني وأن يجعلنا من الراكبين في سفينة نجاة الحسين "ع" ونحن نأمل أن يكون حضورنا في عزائه وتفاعلنا مع ذكراه علامةً على كوننا معه ونسأل الله أن يوفقنا للاقتداء بمنهجه وسيرته وطريقته.

______________
١ سورة الاسراء آية٩
٢سورة الحجر آية ٩
٣ تفسير ابن كثير ص٥٧٣
٤ سورة يونس آية ٥٨
٥ تفسير مجمع البيان ج٢ص١٥٧
٦ سنن أبي داوود ج٢٠٧ ص١١٢٨
٧ بحار الأنوار ج٢٨ ص ١١٧
٨ الاحتجاج ج١ ص١٠٢
٩ الاحتجاج ج١ ص ١٥٤
١٠ سورة لقمان آية١٣
١١ آمالي الطوسي ص٣٨٧
١٢ بحار الأنوار ج٩١ ص ١٨٤

مرات العرض: 3419
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2551) حجم الملف: 54708.03 KB
تشغيل:

قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي الأنصاري
المهاجر بن خالد بن الوليد شهيد صفين