أبو ذر الغفاري وسلطان الكلمة الصادقة
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 8/9/1435 هـ
تعريف:

أبو ذر الغفاري : سلطان الكلمة الصادق


كتابة الأخت الفاضلة زينب المعراج

تصحيح الأخ الفاضل عيسى الربيح

◇ جاء في الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله عن الصحابي أبي ذر الغفاري (رض) :
《 مَا أَظَلَّتْ الْخَضْرَاءُ ، وَلَا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ ، وَلَا أَوْفَى مِنْ أَبِي ذَرٍّ شِبْهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام ... 》 . ورَوَى بَعْضُهُمْ : 《 أَبُو ذَرٍّ يَمْشِي فِي الْأَرْضِ بِزُهْدِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام 》 . (وردت صيغ أخرى للحديثين في المصادر ، وكلها بنفس المعنى)

حديثنا يكون بإذن الله بعنوان : أبو ذر الغفاري وسلطان الكلمة الصادق . 

شذرات من سيرة الصحابي أبي ذر الغفاري :
في البدء نستعرض تعريفاً بهذا الصحابي الجليل ، والمقرّب من رسول الله (ص) .

١- مَن هو أبو ذر ؟
أبو ذر هو كنية ، واسمه الأصلي : جُندَب أو جُندُب بن جنادة (بفتح الدال أو ضمها ، فكلا الصيغتين واردتان في اللغة العربية) ، من قبيلة (غفار) . ولكن غلبت كنيته وعُرف بها ، وفي بعض الأحيان تشتهر الكنية بدلاً من الاسم الأصلي لأسباب عدة ، مثل اشتهار كنية والد أمير المؤمنين (أبي طالب) ، والذي قلّما يعرف الناس اسمه الأصلي .
وسبب اشتهاره بهذه الكنية ، أنه توفي لأبي ذر الغفاري ولد في أيام شبابه ، فعُرف بالكنية التي ارتبطت باسم هذا الولد .
ومن المهم (ونحن نستعرض شخصية هذا الصحابي) أن نتوقف ملياً عند محطات حياته ، لكي نميط اللثام الذي فرض على حياته الحافلة بالجهاد والكلمة الصادقة والأمر بالمعروف ، ونتعرف أكثر على شخصيةٍ ، أجمع على سموها وفضلها الفريقان .

وإذا عدنا للحديث الذي افتتحنا به المحاضرة ، حيث يشير إلى أن أباذر لم تظل الخضراء (يعني السماء) ولم تقل الغبراء (يعني لم تحمل الأرض) مَن هو أصدق لهجةٍ من أبي ذر الغفاري .
ونظراً لقيمة (الصدق) ، فإن منزلةً عظيمة نالها واستحقها ، وحقّ أن تلتقط كلماته وتوجيهاته ؛ ما دام قد تم توقيع النبي (صلى الله عليه وآله) عليه بهذه الصفة العظيمة ، وليس هذا فقط ؛ بل وردت بصيغة المبالغة والتفضيل (أفعل) ، إذا استثنينا من تلك المفاضلة شخصيات المعصومين (عليهم السلام ) .
ولو حاولنا تقصي كلمات هذه الشخصية في مصادر الحديث ، فسنصاب بدهشة وغرابة حينما لا نجد له في (صحيح البخاري) إلا أربعة عشر حديثاً فقط ! .
 مع إن معاصرته للنبي (صلى الله عليه وآله) - وإن تأخرت - ؛ إلا أنها أطول بكثير من صحبةِ (أبي هريرة) ومن شابهه ، بخاصة أنه قدم للمدينة وسكن فيها ، وصارت له خصوصية صحبةٍ بالنبي (صلى الله عليه وآله) حدود ست سنوات تقريباً .
في حين ينقل البعض بأن صحبة أبي هريرة لم تكن إلا سنة وثمانية أشهر؛ ومع ذلك يُنقل عنه أكثر من خمسة آلاف حديث ! .

٢- ما هي ديانة أبي ذر قبل إسلامه ؟
كان أبو ذر من المتألهين ، والمتألّه يعني من (الحنفاء) الذين بقوا على الديانة الإبراهيمية في الجزيرة العربية ، حيث تنقلت هذه الديانة عبر الأوصياء .
ويعتقد باحثون إن مثل عبد المطلب جد النبي (صلى الله عليه وآله) ، كان واحداً من الأوصياء الذين أداموا على الأصول الابراهيمية في قضية التوحيد والإيمان بالآخرة ورفض عبادة الأصنام ، وفي تحليل الطيبات والتحلي بالأخلاق والفضائل، وتحريم الخبائث كالزنا والخمر  ... وما شابه ذلك ، وهناك قسم منهم كان يؤدي مناسك الحج الإبراهيمي .
ولعله لم تكن لديهم الصورة بنفس الوضوح الذي صار لدى المسلمين بعد نزول القرآن ، ولكن أصول هذه الديانة كانت موجودة  .
وهناك قسم آخر لم يكونوا من الحنفاء والمتألهين بهذا المعنى ، لكن كانت لديهم حكمة وعقل بأن الحجر والخشب والتمر والصنم ، وكل ما يُعبد من دون الله لا يضر ولا ينفع .
ويعد أبو ذر الغفاري من أولئك الذين رفضوا عبادة الاصنام قبل بعثة النبي (ص) ، وكان يعبد الله سبحانه وتعالى ، وإن كانت الصورة غير واضحة كما ما عليه بعد الإسلام والقرآن .
وهذا يعني أن الإيمان بخالقية الكون وأنه تعالى هو المدبر والمرجو ، له أصل في تلك الفترة . وقد سمع أبو ذر أنه قد بعث نبي بمكة ، في أوائل البعثة ، فأرسل أخاً له يُدعى (أنيس) . وقال له : اذهب إلى مكة ، وانظر هذا الرجل الذي يقال أنه نبي ، واختبر ميزانه ، ثم أخبرني بمَ تجده .
فلما ذهب أنيس وفعل ما أمره ، وجد أنه يأمر بالمعروف ومكارم الاخلاق ، وينهى عن المنكر ، ويدعو إلى عبادة إله واحد ،  وعنده كلام بليغ لا يشبه الشعر .
فعاد أنيس وأخبر أخاه أبا ذر ؛ فعزم بنفسه للمجيء إلى مكة ، وحينما وصل اضطر للمبيت والنوم في المسجد الحرام ، فمر عليه - آنذاك - الإمام علي بن أبي طالب ،  فقال له عليه السلام : أظنك غريباً ؟ فتعال معي لأضيّفك .
فيقول أبو ذر ـ وهو يروي الخبرـ : فمشيتُ معه ، فلا هو سألني عن شيء ، ولا أنا سألته عن شيء ! فبات ليلته تلك حتى الصباح .
وفي ظهر اليوم التالي رآه الإمام مرة أخرى في المسجد الحرام ، فقال له : ألا تدل البيت الذي كنتَ ضيفاً فيه ؟ .
فذهبا إلى البيت واستضافه ثلاثة أيام ؛ثم سأله : ما لذي جاء بك إلى مكة ؟
فأجابه أبو ذر : وتعدني على أن تكتم عليّ ، سواء وافقتني أو خالفتني ؟
فقال له الإمام  : بلى .
قال أبو ذر : سمعتُ أنه قد جاء رجل يقول إنه مبعوث من السماء.
فرد عليه الإمام علي : أتريد أن آخذك اليه ؟
فقال : نعم . فأخذه علي عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتحدث له النبي عن مبادىء الدين ، وفي الحال أعلن إسلامه . 
فهذا الموقف ينبىء عن طبيعة تكوينه النفسي والذهني عبر ما كان عليه من رفض عبادة الأصنام ، ورفض المنكرات والخبائث .
فطلب منه النبي صلى الله عليه وآله أن يرجع إلى أهله ، ليدعوا قومه لهذا الدين ، مع كتم الأمر إلى أن يرسل له أو يأتيه فيما بعد .
لكنه ما إن خرج من المسجد حتى أعلن عن أمره ، وقال : أيها الناس ! أنا جندب بن جنادة الغفاري .. اعلموا أني اشهد أن لا إله الله وأن محمد رسول الله ! . فتبسم النبي  مما قام به . ويقال أنه أول من أعلن الإسلام بعد بيت النبوة .
وكأنه بإعلانه هذا يريد أن يكسر هيبة قريش ويفتتها مثل الفخار .
وما إن سمع نداؤه ، حتى تكالبوا عليه ، وضربوه ضرباً شديداً حتى أدموا وجهه وأنفه .
وفي اليوم الثاني جاءهم بوجه منتفخ ،  وكرر مقولته فتهجموا عليه ، وفي اليوم الثالث تكرر نفس الفعل ، وتدخل العباس بن عبد المطلب ، فقال لهم : يا معشر قريش ! هل أنتم مجانين ؟! إنه من قبيلة غفار ، وهم (مثل نقطة تفتيش) على قوافلكم إلى الشام ، وكل أموالكم وتجارتكم ستذهب سدى لو علموا ما فعلتم به ، فلماذا تتورطون في هذا الرجل ؟ فلتتركوه ..
ثم أمره بالخروج لطريق أخرى ، كيلا يعرض نفسه للأذى .
وقد قال فيه الإمام علي عليه السلام : 《 فيه كان ربع الإسلام 》. يعني أنه من أوائل من أسلم .

٣- أبو ذر بعد إسلامه :
بقي أبو ذر في منطقة غفار ، يدعوا قومه وأهله إلى إن النبي  (ص) هاجر إلى المدينة وبقي فيها ، ولم يهاجر أبو ذر إلى المدينة إلا بعد معركة الخندق (فلم يشهد بدراً ولا أحد ولا الخندق والأحزاب) . فالتصق برسول الله (ص) من اليوم الأول ، وكان واضحاً أن هناك خطاً مفضلاً لدى رسول الله صلى الله عليه وآله - وهو عليه حريص - وهو الخط الأصيل الذي يمثل علي بن أبي طالب عليه السلام رأسه وأساسه ، فارتبط أبو ذر بأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ، وصار باستمرار يتحدث عن علي .

وفي رواياتنا هناك الكثير من أحاديث أبي ذر في شأن أمير المؤمنين ؛ بل في روايات العامة ينقلون أنهم رأوا : أباذر الغفاري وقد أخذ بعضادة باب الكعبة في رواية ، وفي رواية اخرى وهو ملتصق بأستار الكعبة . ويتبين من خلال تعدد الرواة ، وتعداد بعض المواصفات أن الحادثة متكررة .

الحديث الأول :
يقول رأينا أبو ذر الغفاري وهو متعلق بعضادة باب الكعبة ، وهو يقول :
أيها الناس ! من عرفني فقد عرفني ، أنا جندب بن جنادة الغفاري أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله ، أسمعتم قول النبي : 《 ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر  ؟ فيجيب بعض الحاضرين :
بلى سمعنا ذلك .
فيقول بعد هذا الإشهاد :
فأني سمعت رسول الله (ص) يقول :《 مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق 》 .

فلاحظ التشبيه بسفينة نوح ، حيث هي المنجية في لجج المياه الغارقة ، وأنه لا عاصم من جبلٍ أو غيره إلا لمن احتمى بالسفينة .
والنبي المصطفى (ص) يريد أن يشير إلى هذا المعنى في قضية العقائد وفي قضية الأديان، فالمنجي الوحيد هو ولاية آل محمد .

الحديث الثاني :
《 رأيت أبا ذر الغفاري في الموسم ، وقد تعلق بأستار الكعبة ، وهو يقول : أنا أبو ذر صاحب رسول الله ، وأني سمعته - والله - يقول : إني تارك فيكم - ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً - كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إلا أنهما لا يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة 》 .

وهكذا لا يروى له أكثر من عدد قليل من الأحاديث ، فبعض المحدثين من أتباع المدارس الأخرى يفرضون شيئاً من الحظر والمنع على أحاديث عدد من الصحابة ، منهم كان أبو ذر .

وينقل بعضهم : مررنا على أبي ذر في المدينة ، وأردنا أن نغادر المدينة ، فقلنا له : أنت صاحب رسول الله ، بمَ تنصحنا وتوصينا ؟ فقال : أوصيكم بلزوم علي بن أبي طالب ، التزموا به وبطريقته .
وقد استمر على هذا الأمر من التوصيات حتى توفي رسول الله (ص) .
وقد كان بعد وفاة النبي من الذين أنكروا على الخليفة الأول مقامه على منبر رسول الله الذي هو مقام أمير المؤمنين علي عليه السلام .
وقد ذكرت بعض الأخبار أن أبا ذر كان يشير لعلي بعنوان (أمير المؤمنين) في زمن الخلفاء ، فسأله بعضهم : أتقصد الخليفة الثالث ؟
وهذا السؤال ينبىء عن حالة استغراب يرونها في علاقته المتشنجة مع الخليفة الثالث ؛ فكيف يوصي به (بناء على استعماله لقب أمير المؤمنين) ؟ . 
وكان يجيب بصراحة وشجاعة : أقصد علياً بن أبي طالب صلوات الله عليه .
ويعود سبب تشنج علاقاته بالخلفاء ، إلى ما كان يعترض عليهم من تمكين مسلمي أهل الكتاب - خاصة عصر الخليفة الثاني - وتمثل غالباً بكعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وعبدالله بن سلام . وإعطائهم دوراً كبيراً في نشر الإسرائيليات وسط الدولة الإسلامية ، يضاف لذلك منعهم من تدوين وقول رسول الله (ص) .
فنتج عن هذا ، إتاحة المجال لقصص القصاصين ، وتسرّب خلفياتهم الدينية المحرفة . وهذا الأمر بالغ الأهمية لمن أراد تتبع انتشار الإسرائيليات وسط المسلمين وتدوين كتبهم وفق تلك الحالة الغريبة التي ارتقوا فيها المنابر ، فصاروا رعاة الدين والموعظة وأهل القصص والحديث والتفسير . فانتقلت الأفكار المنحرفة والباطلة لعقول المسلمين ، وفيما بعد تم تدوينها في كتبهم .
فمثل هذه الأحداث ، هي التي دعت أبا ذر أن يتخذ موقفاً معارضاً من سياسة الخلفاء .

٤- موقف أبي ذر من السياسة المالية :
نقل التاريخ بأن الخليفة الثالث لما أراد أن يأخذ من ميزانية الدولة (بيت مال المسلمين) لبعض شؤنه (على سبيل الاقتراض) ، استشار كعب الأحبار قائلاً : لو سلطان الله الخليفة أراد أن يقترض من بيت مال المسلمين مبلغاً من المال ؛ فهل عليه في ذلك إثم ؟  فأجابه بالنفي .
فلما سمع أبو ذر بذلك ، أتى لكعبٍ غاضباً معترضاً ، يخاطبه : يا بن اليهودية من أين جئت بهذا ؟
ولك أن تقارن هذا الموقف ، وموقف الإمام علي (ع) حينما أعار خازنه من الخزينة عقداً لإحدى بناته ، فهدد الخازن لفعلته ، لأن المسلمين شركاء في هذا المال .

إن تلك الحالات بررت للفساد المالي ، وأعطت الأذن للتملك بأي وسيلة ، فأخذ البذخ وصرف الأموال على من هو قريب نسبياً من الخليفة كمروان بن الحكم ، حيث نقل بعض المؤرخين : أنه أعطاه الخليفة الثالث مقدار خمس أفريقيا بكامله ! .
إن مثل هذه التصرفات ، استثارت ردات الفعل لأبي ذر ؛ فأخذ يعلن صوته ، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر .
ففريضة الأمر والنهي فرض اجتماعي  ليس في شؤون فردية محدودة ، أو مظاهر شكلية بسيطة ؛ بل يشمل الفساد المالي والسرقات والكنز الفاحش .
وقد عرف بكثرة تلاوته للقول الله تعالى :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) [سورة التوبة 34 - 35] .
 وقد نتج عن تلك الحالات أن سيطر الأمويون في عهد الخليفة الثالث بمقدرات الأمة المالية وهذا يحثنا أن نبحث ونتساءل عن خلفيات سيطرتهم مالياً وسياسياً ودينياً .
ولذا كان من الطبيعي أن يتأذى الخليفة من معارضة أبي ذر ، وكذا المستغلون لهذه الحالة .وقد تم استدعاؤه وتعنيفه لموقفه المعارض ، وبعدها تم ترحيله إلى الشام عند معاوية .
وبعدها عاد ، ثم تم نفيه إلى الربذة ، ومنع من أن يخرج معه أحد ، لكن الإمام علي وابنيه الحسنين خرجوا معه ؛ ليعززوا موقفه ، وقال له الإمام : 《  يَاأَبَاذَرٍّ ، إِنَّكَ غَضِبْتَ للهِ ، فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ ، إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ ، وَخِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ ، فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ ، وَاهْرُبْ مِنهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ ؛ فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ ، وأَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ ! وَسَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابحُ غَداً ، وَالْأَكْثَرُ حُسَّداً .
وَلَوْ أَنَّ السَّماَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً ، ثُمَّ اتَّقَى اللهَ ، لَجَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً ! لاَ يُؤْنِسَنَّكَ إِلاَّ الْحَقُّ ، وَلاَ يُوحِشَنَّكَ إِلاَّ الْبَاطِلُ ، فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لِأَحَبُّوكَ ، وَلَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لِأَمَّنُوكَ 》 .

لقد تم ترحيله حتى من غير ضمان مالي واجتماعي ، فتسفيره للشام كان الغرض منه عزله عن المجتمع الإسلامي في المدينة ، وقد تأذى منه معاوية ، وخاف على عرشه منه وكتب إلى الخليفة الثالث بأنه أفسد عليه عيشه ، فكتب إليه(كما جاء في كتاب أنساب الأشراف للبلاذري) : أن احمله إلي ّعلى أغلظ مركب وأوعره ،  ووكل به أشد من عرفت .
فأركبوه على بعير هزيل ، ووكلوا به عدداً من الصقالبة - بحسب هذه الرواية - فكانوا يسيرون به من غير راحة ! . وهو بعمر السبعين ، يقطع مسافة طويلة (قرابة الألفين كم) من الشام إلى المدينة في خمسة أيام !! .
ويروى (المسعودي) صاحب كتاب مروج الذهب : لما وصل أبو ذر الغفاري إلى المدينة تناثر لحم فخده !! وقد يقصد أن عضلة الفخد تهتكت بسبب المركب الصعب ، والسير الطويل المتعب .
ولما وصل للمدينة ، استقبل بالسب والكلام غير الحسن . ولكن أبا ذر لم يتراجع عن موقف المعارضة والتحدث عن مقام أهل البيت وولايتهم ، فضاقوا به مرة أخرى ، إلى أن طلبه الخليفة وأجبره على ترك المدينة ، فنفي للربذة للتخلص منه وعزله تماماً ، في مكان قفرٍ لا أثر للحياة فيه .
كما منع من أن يتبعه أو يلحقه أحد ، فخرج هو وزجته وابنته ، وبعض الغنيمات .
وهذا الوضع الذي آل إليه أبو ذر ، بجهاده المرير مصداق لكلام الإمام علي :《 ... وَمَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَةٍ فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُوماً مَا لَمْ يَكُنْ شَاكّاً فِي دِينِهِ وَلَا مُرْتَاباً بِيَقِينِهِ ... 》 .
      
٥- نهاية المطاف لسيرة أبي ذر :
يعتبر أبو ذر الغفاري صاحب وسام حقيقي في صدقه وإخلاصه للإسلام الذي انتمى إليه ، وهو إذ قام بالنصيحة أحسن قيام لجيله من الصحابة ، وواجه الانحرافات الفكرية وتسلط بالميزانية المالية ، وكان غرض تحركه كله إعادة الالتزام الديني لمن مال وانحرف من جيل الصحابة ، وعاش هذا الهم ، وفي نهاية أمره ينفى ويعزل في منطقة صحراوية للجوع والعطش .وقد تمرضت زوجته إثر ذلك ، وماتت بعدها فدفنها بيده .
ولم يكن معه بعد ذلك إلا ابنته ، حينما حانت منه الوفاة ، فأوصاها بأنه سيأتي ركب إليه لجنازته ، كما أخبره بذلك النبي(ص) في حديثه الذي رواه العامة : 《 رحمك الله يا أبا ذر ، تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك 》.فهذا هو مآل من يدفع حياته ثمناً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وحينما قضى أمره في عام ٣٢هجري ، فزعت ابنته ومشت إلى رأس الطريق ، فرأت غبرة قادمة تجاهها ، وكان القادم مالك الأشتر النخعي ، وقيل أن بصحبته عبد الله بن مسعود ، لذا اختلف المؤرخون فيمن صلى على جنازة أبي ذر (رض) .بعدها أخذوا ابنته اليتيمة إلى الإمام علي لكي يأويها .
وهكذا انقضت سيرة عظيمة لرجل لا تأخذه في الله لومة لائم .   

مرات العرض: 3425
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2567) حجم الملف: 57811.46 KB
تشغيل:

الجانب العبادي في حياة أمير المؤمنين
وآتو اليتامى اموالهم