الحسين سيرة ما قبل كربلاء
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 2/1/1435 هـ
تعريف:

الإمام الحسين :سيرة ما قبل كربلاء


كتابة الأخت الفاضلة أمجاد عبد العال


قال سيدنا ومولانا رسولا الله (ص): "إِنَّ الحُسَيْنَ مِصْبَاحُ الهُدَى وَسَفِينَةُ النَّجَاةِ"، صدق سيدنا ومولانا رسول الله (ص).
حديثنا يتناول سيرة الحسين ما قبل كربلاء، وهي الفترة التي تشكل كل عمر الإمام الحسين، باستثناء قرابة سبعة أشهر، هي التي خرج فيها من المدينة إلى مكة ثم إلى كربلاء، في ذلك العمل العظيم الذي أحيا به الأمة، وأحيا به الدين.
هذه الفترة بالرغم من أنها هي الفترة الأعظم والأكبر، والتي تشكل مساحة واسعة للاقتداء، إلا أنها في الغالب ليست في متناول العموم، بل إن الصورة النمطية التي ترسم للإمام الحسين عندما يُذكر، هي صورة كربلاء وما جرى فيها من أحداث.
ولا ريب أن شهادة الحسين (ع)، في كربلاء، كان لها ذلك الدور الأكبر في إحياء الدين والحفاظ عليه، لكن ما سبقها من فترة زمنية هي محل للاقتداء، وينبغي التعرف عليها. لذلك سنحاول هذه الليلة في هذا المقدار المتوفر من الوقت، أن نتحدث - ولو باختصار - عن سيرة الحسين (ع) إلى ما قبل الخروج من المدينة المنورة.
1/ في السنة الرابعة للهجرة، ولد الإمام الحسين (ع) في شهر شعبان، وهنا يوجد بحث تاريخي لا نستطيع الآن أن نتعرض له، وهو: أنه هل الإمام الحسين، كان قد ولد لستة أشهر كما ورد في بعض الروايات، في مشابهته ليحيى بن زكريا أو أن ذلك كان للإمام الحسن (ع)، كما يرى باحثون آخرون. وهذا بحث تاريخي، فلكل من الرأيين ما يؤيده، ولكننا الآن لا نستطيع أن نذهب إليه، ونتحدث فيه.
تعيين ولادة الإمام الحسين في السنة الرابعة للهجرة، مهم بالنسبة إلى الإنسان في تصور الموقف بشكل أوضح؛ لأنه أحيانا عندما يُتحدث عن الحسين، يأتي إلى الذهن صورة رجل في الخمسينات من العمر، وهذا يرتبط بقضية كربلاء. أما قبله فقد كان يتدرج في السن. مثلا: مما يهم، الفترة التي عاش فيها الإمام الحسين (ع) مع النبي المصطفى (ص)، وهي ست سنوات تقريبا، باعتبار أن النبي المصطفى (ص)، انتقل إلى ربه، في شهر صفر، السنة الحادية عشر للهجرة. فأقصى فترة كان فيها الإمام الحسين (ع)، إذا حسبنا ولادته في السنة الرابعة، شهر شعبان، هي ست سنوات، تزيد قليلا.
هذا التعيين مهم؛ لأننا نجد أن رسول الله (ص)، في هذه الفترة قد قال أحاديث كثيرة في حق الحسين. بعضها، وعمر الإمام كان سنتين. بعضها الآخر، عمره سنة واحدة. بعضها، عمره ثلاث سنوات، وأربع سنوات، وخمس سنوات.
عندما نأتي إلى ذلك القسم من الأحاديث النبوية، التي ترتبط بالإمامة، مثل: "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، أو "الحسين هذا إمام أخو إمام أبو أئمة"، فهذه، لما نفكر – مثلا - أن النبي قالها في أيام كان الإمام الحسين عمره أربع سنوات، أو خمس سنوات، أو ست سنوات. فلا ريب أنه كان يخاطب المستقبل. نعم كان يبين فضيلة الإمام الحسين (ع) الآن، ولكن أيضا، هو يتحدث عن تعيين الإمامة مستقبلا.
يعني: يا أيها الناس، إذا أدركتم الحسين وقد نهض بالإمامة، فهذا إمام، وأخوه أيضا إمام. فيكون نص على الإمام الحسين، وهو أبو أئمة، فيكون أيضا نص على الأئمة من ولد الإمام الحسين (ع). فالواقع، أن الآن ليس من عمل مطلوب من وراء هذا الكلام؛ لأن رسول الله هو النبي والإمام القائم بالفعل، وبعده سيأتي الإمام أمير المؤمنين، وبعده الإمام الحسن، فليس المطلوب من المخاطب الآن شيئا معينا تجاه هذا الحديث. وإنما هو في صدد تعيين الإمامة للإمام الحسين (ع) وتمهيدها للمستقبل. أن: أيها الناس، هذا إمام. إن قام بالإمامة إمام، وإن قعد فهو إمام. إن قام بالثورة إمام، وإن ابتعد عن الثورة إمام. هذا إمام منصوص عليه.
هذه الأحاديث لما ننظر إليها، "سيدا شباب أهل الجنة"، "إمام ابن إمام أبو إمام أخو إمام"، إلى غير ذلك من الأحاديث، نقرأ فيها تعيينا للإمامة، وتنصيبا لها في المستقبل، بالإضافة إلى أنها بيان لمنزلته وشأنه صلوات الله عليه. يعني هو الآن ليس إماما فعلا. طبعا الذي نعتقده نحن: أن تنصيب الأئمة وتعيينهم من قبل الله عز وجل هو قبل الخلق، ولكن الكلام: فيمن هو الإمام الفعلي الآن، هو رسول الله (ص)، حين إطلاق هذا الكلام.
في زمان أمير المؤمنين، من هو الإمام الفعلي؟ الذي تعبر عنه الروايات: بالإمام الناطق، والإمام الصامت، الإمام الناطق؟ الإمام الفعلي: أمير المؤمنين، والإمام الحسين: مأمون. وهكذا في زمان الإمام الحسن (ع). فهذه الروايات تنفع في تعيين الإمامة في المستقبل.
2/ بقي الإمام الحسين (ع) في هذه الفترة مع جده رسول الله، محاطا برعايته وعنايته فيما نقل المسلمون كثيرا، حتى في بعض التفاصيل الدقيقة، مثل: تعليم النبي الإمام (ع) الكلام. منقول هذا. وفي الروايات: أن الإمام الحسين (ع) إلى ستة أشهر لم ينطق، وقسم من الأطفال حتى لثمانية أشهر وتسعة أشهر ما ينطقون. لكن هذا بالقياس إلى الإمام الحسن أو إلى مثلا من كانوا في تلك البيئة من الذرية، ما كان هو الشيء الطبيعي. فأول نطق الإمام الحسين (ع) كان خلف النبي (ص)، وكان النبي يأخذه إلى المسجد معه، وفي هذا إلفاتة تربوية أيضا: يا أيها المؤمنون، خذوا أطفالكم إلى المساجد. يا أئمة الجماعة، اقبلوا بمجيء الأطفال إلى المساجد، يا أيها المصلون والمصليات لا تنزعجوا من وجود طفل في المسجد. هذا خطأ، غير صحيح.
المرأة تريد أن تأتي إلى المسجد، فلا بد أن تذهب بطفلها إلى مكان آخر، الوالد يريد أن يأتي إلى المسجد فلا بد أن يذهب بطفله إلى مكان آخر، من أين هذا! هذا النبي (ص) كان يأتي بالحسن والحسين معه، وأحيانا كانا يأتيانه وهو يصلي، سواء أمير المؤمنين أتى بهم معه، أو هم جاؤوا. المهم أن الرواية واردة هكذا.
فجاء به إلى المسجد، فكبَّر النبي: "اللهُ أَكْبَرُ"، وأول كلمة نطق بها الإمام الحسين، كانت التكبير. فقال الحسين: "اللهُ أَكْبَرُ". النبي سمع كلام الحسين، فأعاد التكبير: "اللهُ أَكْبَرُ". كبر الحسين مرة أخرى، مرة ثانية وثالثة، وهكذا، إلى سبع مرات. النبي يكبر والحسين يكبر خلفه. وبعض الروايات تشير إلى أن الوارد في بعض الصلوات من سبع تكبيرات منشؤه كان من ذلك الوقت.
فمن هذه النقطة التي كان اهتمام النبي (ص) بتدريب الإمام الحسين وبتربيته إلى هذا المقدار: تعليمه النطق، إلى تعليمه سورة التوحيد بعد مرور سنة واحدة. فأول ما علمه رسول الله، من القرآن. أي تلاحظون أن النبي في هذا المشوار كله، أول ما علمه من القرآن، ونحن نعتقد أن علوم الأئمة هي من علوم رسول الله (ص)، في هذا المورد وفي غيره، وأول ما علمه من القرآن الكريم كان سورة التوحيد. وأول نطقه: الله أكبر. أي أول سورة أو معرفة إسلامية حسب التعبير كانت سورة التوحيد، وعمره في ذلك الوقت، سنة واحدة.
هذه الرعاية وهذه العناية كانت ملحوظة من النبي إلى الحسين (ع)، ليس الغرض منها محليا ووقتيا الآن وإشباع عواطف، وإنما الغرض منها إلى تقدم الحسين، تميز الحسين، تعين الإمامة في الحسين (ع)، وهذا يخاطب به أهل المستقبل.
3/ توفي رسول الله (ص) في السنة الحادية عشر والحسين يخطو في السابعة. وهنا سنلاحظ أن موقف الإمام الحسين (ع) من الحدث الذي وقع، والخلافة التي تلت رسول الله. فقد تأثر بما رآه مباشرة، ولذلك نحن لا نستطيع أن نقبل ما ينقله بعض المؤرخين من غير المدرسة الإمامية من الإشارة إلى أن الإمام الحسن والحسين – مثلا - كانا منسجمين، أو مثلا راضيين عما جرى. فهذا يخالف المنطق التاريخي ويخالف المنطق الطبيعي للإنسان.
فتصور أنت أن واحدا عندك من أبنائك عمره الآن ست سنوات ونصف، سبع سنوات ونصف، يرى مرة عدة من الرجال قد أتوا، وهجموا على البيت، وضربوا، وكسروا، وأسقطوا جنين أمه، وصنعوا ما صنعوا، وأخذوا الإمامة من أبيه، على الأقل، سوف يكون عاطفيا مخالفا لهؤلاء. دع عنك المسألة المبدئية التي نحن نعتقدها في الأئمة (ع) من تلك الأعمار. فحتى لو واحد لا يعتقد بهذا الأمر، فلا ريب أن الحدث كان حدثا شديد السوء، وبالتالي كان يستثير في الحسين (ع) موقف المخالفة ولو على المستوى النفسي؛ نظرا لأن أباه (ع) لم يلجأ إلى أكثر من هذا، والإمام الحسين (ع) أيضا اتخذ نفس موقف والده: "فَصَبَرْتُ وَفِي العَيْنِ قَذَى وَفِي الحَلْقِ شَجَى أَرَى تُرَاثِي نَهْبًا"، وفي الطرف الآخر: "فَوَاللهِ لَأُسَالِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ المُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ الجَوْرُ فِيهَا إِلَّا عَلَيَّ خَاصَة".
4/هذه الفترة مرت، سنتان ونصف، كانت خلافة الخليفة الأول، لما نأتي إلى خلافة الخليفة الثاني، يشار إلى نقطة وحادثة حدثت إلى الإمام الحسين (ع)، وينقلها أيضا غير مصادر الشيعة الإمامية، وهي أن الإمام الحسين ذلك الوقت - يعني أنت تفترض أن عمر الإمام الحسين كان في حدود تسع سنوات إلى عشر سنوات - جاء وقد رأى عمر بن الخطاب على المنبر، يخطب في المسجد، فجاء وصعد مرقاة من المنبر، وقال: "انْزِلْ عَنْ مِنْبَرِ أَبِي، وَاذْهَبْ إِلَى مِنْبَرِ أَبِيكَ". اذهب وابحث عن منبر أبيك، فهذا منبر أبي. فقال له الخليفة: "نَعَم إِنَّهُ مِنْبَرُ أَبِيكَ، لَا مِنْبَرُ أَبِي". طبعا هو يقصد منبر رسول الله (ص)، والإمام الحسين يقصد أنه منبر علي (ع). قال: "نَعَم إِنَّهُ مِنْبَرُ أَبِيكَ، لَا مِنْبَرُ أَبِي". ثم التفت إليه، وقال له: "مَنْ عَلَّمَكَ هَذَا؟"، من علمك أن تقول هذا الكلام؟ يريد أن يرى، هل من أحد أرسله بهذه الرسالة في وسط الناس؟ قال: "مَا أَحَدٌ عَلَّمَنِي، أَنَا قُلْتُ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي". أنا أشخص الوضع، وأفهم هذا المعنى، وأنا قلته من تلقاء نفسي، يعني: لستُ مرسلا من جهة. افترض، من علي إذ قال له أن يذهب ويفعل هكذا، أو واحد من أصحاب أبيه، لا.
نحن نلاحظ مثل هذا، لكن لم يكن هناك موقف واضح في هذا الجانب، فيما يرتبط بالموقف من الخلافة. والتزم الإمام الحسن بموقف أبيه الذي كان يقوم على أساس الانكفاء عن الحالة العامة، إلا فيما كان يتوقف عليه إقامة الحكم الشرعي وتعديل الميل الذي كان يحصل.
افترض، مثلا: ميراث يذهب من أناس! جريمة قتل يمكن أن يصبح القاتل فيها غير الشخص الذي قتل! امرأة مطلقة طلاقا غير صحيح، وتتزوج! نسبة ميراث: نسبة شخص إلى عائلة، قضايا الفروج، قضايا الدماء، قضايا الأموال، قضايا الحدود. الإمام (ع) كان يدخل إما مباشرة ويبادر في ذلك، وإما كان يقوم بالاستجابة عندما يطلب منه. وفي هذا المعنى واضح لكم عدد المرات التي قال فيها الخليفة الثاني: "لَوْلَا عَلِيٍّ لَهَلَكَ عُمَر"، إشارة إلى مساهمات الإمام أمير المؤمنين في هذا الحد، في أنه لا يصبح هناك - قدر الإمكان - تجاوز للأحكام الشرعية بما يذهب بحقوق الناس، ويفتئت عليهم.
5/ في خلافة الخليفة الثالث، نشاهد موقفا آخر للإمام الحسين (ع)، أيضا هنا، وقبل الخليفة الثالث، هناك كلام ينقل في بعض الكتب التاريخية يحتاج إلى تحقيق، أي هذا النقل يحتاج إلى تأمل، والآن نحن لا نستطيع أن نقبله، ولا نستطيع أن ننفيه بالكامل، وهو: ما رووه من أن الإمام الحسين والإمام الحسن أخاه، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، في خصوص الحسنين (ع)، أنهما كانا ممن خرج للقتال، وللفتوحات الإسلامية أيام الخليفة الثاني. وبعضهم يذكر هذا المعنى. وهذا الأمر لا نستطيع الآن تأكيده أو نفيه، ويحتاج إلى دراسة تاريخية، لكنه منقول. ولكل من الوجهين، ما يبرره. الآن نحن لا نعطي رأيا فيه، لكن هذا منقول.
في أيام الخليفة الثالث، حالة المواجهة أصبحت أكثر ظهورا بين الخط العلوي الهاشمي، وبين الخلافة بالذات في صورتها الأموية التي كانت أيام الخليفة الثالث. وهنا، أظهر أمير المؤمنين (ع) موقفه، وبتبعه أيضا، أظهر الإمام الحسن (ع) مواقف من هذا القبيل. منها: ما يذكر في تشييعه وأبيه وأخيه الحسين (ع) لأبي ذر الغفاري، عندما قامت الخلافة بنفيه من المدينة إلى الربذة.
أبو ذر الغفاري المعروف، على أثر إنكار للتسلط، والفساد المالي، والتجاوزات الشرعية، وتقريب الأقارب من غير وجه حق، أمر الخليفة الثالث بنفيه من المدينة إلى خارجها. فنفي أولا إلى دمشق، ثم تأذى معاوية منه، فرده إلى المدينة. بعد ذلك أيضا، أخرج من المدينة إلى الربذة، منطقة صحراوية ليس فيها أحد. وحرج جهاز الخلافة على الناس جميعا أن لا يخرجوا في توديعه ولا أن يرافقوا. قرار رسمي، فهذا مغضوب عليه، لا أحد يخرج معه.
أمير المؤمنين، ومعه ابنان الحسنان، وبعض المقربين منه، لم يعتنوا بهذا الأمر المخالف، وخرجوا معه إلى ظاهر المدينة، يعني قطعوا معه كل المسافة إلى خارج المدينة لكي يشيعوه. وهناك نجد كلاما للإمام الحسين (ع)، وقد كان يودع، وعمره في هذا الوقت، 30 سنة تقريبا، أقل من 30 سنة، 28 سنة، 27 سنة، فيقول لأبي ذر الغفاري: "يَا عَمَّاه، يَا أَبَا ذَر، إِنَّ القَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُم وَخِفْتَهُم عَلَى دِينِكَ، فَاتْرُكْ لَهُم مَا خَافُوكَ عَلَيهِ، وَانْجُ بِمَا خِفْتَهُم عَلَيهِ، فَو اللهِ لَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كَانَتَا رَتْقًا عَلَى عَبْدٍ لَجَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ مَخْرَجًا". اذهب وتوكل على الله، فأنت إنسان مبدئي، موقفك كان سليما من أجل الدين، وأولئك من أجل الدنيا. فلا تخاف في هذا الجانب، فالفرج أيضا قريب عنك من الله عز وجل. وهذا نلاحظه في موقف الإمام الحسين من أبي ذر الغفاري.
6/ مع مجيء الخلافة إلى أمير المؤمنين (ع)، شارك في حروب أبيه مشاركة فعالة، فالآن الإمام الحسين (ع) يخطو باتجاه 30، 31 سنة. أي في قوة الشباب، في عز الجلادة. فخدم أباه الإمام أمير المؤمنين (ع) في حروبه وفي سائر الأمور الأخرى. وكان مبعوثه في أماكن مختلفة. وكان متقدما في ميادين القتال، إلى الحد الذي يذكرون فيه أن الإمام أمير المؤمنين (ع) لما رأى شدة اندفاع الحسن والحسين في حرب الجمل، وأنهما ما واحد يطلع عليهما إلا خرجا إليه، ولا كتيبة تخرج، إلا ينهضان إليها للدفاع. فهؤلاء ليسوا مثل بعض أبناء الملوك والسلاطين الذين يتركون الفقراء والضعفاء تطحنهم رحى الحرب، وهم جالسون مرتاحون. وإنما كانوا على الخطوط الأولى في الجبهات. فكانا يخرجان ويبادران إلى حد أشبه بحالة الاستشهاد، وطلب الشهادة بأي نحو من الأنحاء، وهؤلاء معدون لكي يكونوا أئمة بعد الإمام أمير المؤمنين، وعندهم هذا الاندفاع الكبير، فقال أمير المؤمنين (ع): "أَيُّهَا النَّاس امْلِكُوا عَنِّي هَذَيْنِ الغُلَامَينِ"، امسكوهم، احبسوهم، لا تتركوهم بهذا الشكل، فكلما واحد طلع عليهم، ذهبوا إليه، "فَإِنِّي أَنْفَسُ بِهِم عَنِ المَوْتِ لِكَيلَا يَنْقَطِعَ نَسْلُ رَسُولِ اللهِ" (ص)، وهذا يؤيد ما ذكرناه في وقت من الأوقات، من كلام الإمام الحسين لزينب عن زين العابدين: "احْبِسِيهِ لِكَيْلَا يَنْقَطِعَ نَسْلُ رَسُولِ اللهِ"، فالمقصود نسل الإمامة، وليس النسل: بمعني: كل واحد من أبناء النبي، فبالتالي هم يجري عليهم ما يجري على غيرهم، ولكن هؤلاء ضمن المخطط الإلهي يفترض أن يكونوا أئمة للأمة. فكان عندهم هذا الاندفاع في الجمل، في صفين. في النهروان، في غيره. وتحركوا باتجاه تدعيم هذه الولاية والحكومة العلوية العادلة التي يمثلها أمير المؤمنين (ع).
شيء عن الجانب العلمي في شخصية الحسين
ولا بد أن نشير هنا إلى حديث مختصر حول الاتجاه العلمي للإمام الحسين (ع)؛ لأنه بحث وبحر مواج، ومع الأسف لا يبرز هذا الجانب، فإذا تقول: من من الأئمة كان عنده علم وكذا؟ يتبادر إلى ذهنك الباقر والصادق، عليهما السلام. أما الحسين، فلعل قسم من الناس يتصورون، لا شيء عنده، واضح أو كذا، مع أن الجانب العلمي في حياة الإمام الحسين، جانب مفصل، وواسع جدا، وبحر مواج.
أحد العلماء، جمع كلمات الإمام الحسين (ع)، في موسوعة سماها: موسوعة الإمام الحسين. أصدرها مع باقر العلوم، أكثر من 1000 صفحة من الخطب، والكلمات الحكمية، والمسائل. كما نهج البلاغة عندنا. نهج البلاغة ليس فيه 1000 صفحة مجردة، بل نهج البلاغة لأمير المؤمنين (ع) في مثل هذه الطبعات، أحيانا يصل إلى 700 أو 800 صفحة أو دون ذلك.
هؤلاء جمعوا من كلمات الإمام الحسين، وأجوبته على المسائل، في قضايا التوحيد، في قضايا الصفات، بعض الكلمات التي عندما تقرأها على أحد، ولا يلتفت إلى القائل، يتصور أن هذه من أمير المؤمنين (ع). فهي كلمات قوية جدا في التوحيد، وكلمات في صفات الله عز وجل رائعة، وقليلة النظير. لما نسمعها، كأننا نسمع كلام أمير المؤمنين (ع)، أنا أقرأ لك قسم بسيط منها، وإلا فالحديث يطول جدا.
الإمام الحسين (ع)، في كتاب: تحف العقول. أحد العلماء ألف كتابا، اسمه: تحف العقول، واسم العالِم: ابن شعبة الحراني، وهذا ناقل عن كل إمام من الأئمة مجموعة من الكلمات والخطب، وهو كتاب اختيارات نافعة جدا، فأنا أنصح به أخواني المؤمنين، وأخواتي المؤمنات، ممن لديهم توجه إلى الاستماع وإلى قراءة كلمات أهل البيت (ع). فهذا من أفضل الاختيارات، قام بها هذا العالم الجليل، أبو شعبة الحراني.
يقول في صفات الله، وهذه كلمات للإمام الحسين (ع)، يقول: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَار، وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار، وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير، اسْتَخْلَصَ الوَحْدَانِيَّةَ وَالْجَبَرُوت، وَأَمْضَى المَشِيَّةَ وَالإِرَادَةَ وَالقُدْرَةَ وَالعِلْمَ، بِمَا هُوَ كَائِنٌ، لَا مُنَازِعَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ، لَا كُفْوَ لَهُ يُعَادِلُه، وَلَا ضِدَّ لَهُ يُنَازِعَهُ، وَلَا سَمِيَّ لَهُ يُشَابِهُهُ، وَلَا مِثْلَ لُهُ يُشَاكِلُهُ وَلَا تَتَدَاوَلُهُ الأُمُورُ، وَلَا تَجْرِي عَلَيهِ الأَحْوَال، وَلَا تَنْزِلُ عَلَيهِ الأَحْدَاث وَلَا يَقْدِرُ الوَاصِفُونَ كُنْهَ عَظَمَتِهِ، وَلَا يَخْطُرُ عَلَى القُلُوبِ مَبْلَغَ جَبَرُوتِهِ".
لاحظ بعض الكلمات هنا، تشابه ما ورد في الأدعية. وهذه نقطة مهمة، أشير إليها وأذكرك بها، وهي أن قسما من الأدعية التي نقرأها، مثل: دعاء يوم الجمعة، دعاء كميل، أدعية الصحيفة السجادية، دعاء عرفة، وغيرها، هذه مدارس، هذه صفات، هذه – قسم منها - شرح لمعان عقائدية سامية، شرح لحالات نفسية، شرح لصفات أخلاقية. فلا يصح منا أن نتعامل معها فقط على أنها مجرد دعاء نقرأه؛ لأنه مستحب، أي لأن ليلة الجمعة مستحب أن نقرأ دعاء كميل، لا. فهذه مدرسة، هذه معلومات، هذا بحث عقائدي، هذا فيه جوانب نفسية، فيه علاج إلى ذاتك، إلى أخلاقياتك، فتأمل فيه قليلا.
كذلك، مثل هذا، لما نلاحظ الخطبة التي يخطبها، وهي كالدعاء الذي يقوله الإمام (ع). إذ يقول: "عَمَّنْ فِي السَّمَاءِ احْتِجَابَهُ كَمَنْ فِي الأَرْضَ"، فالله محتجب، سواء عن أهل السماء أو عن أهل الأرض، "وَقُرْبُهُ كَرَامَتُهُ وَبُعْدُهُ إِهَانَتُهُ، لَا تُحِلُّهُ فِيِ"، يعني إذا قلت: الله في، فغير صحيح؛ لأنك أحللته في مكان. وهذا خلاف ما يقوله بعض أصحاب المدارس: الله أين؟ يقول لك: في السماء، وبعضهم ينظِّر لهذا! يا، أنت إذا قلت: في، معنى ذلك: أنك أحللته في مكان! وقول الله عز وجل: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ)، ليس إشارة إلى المكان، وإنما إشارة إلى الألوهية، أنه إله في كل شيء، وعلى كل شيء. هو إله سواء على من في السموات أو على من في الأرض، "لَا تُحِلُّهُ فِي، وَلَا تُوَقِّتُهُ إِذْ"، ليس له توقيت، كما يقول أمير المؤمنين: "لَا يُكَيَّفُ بِكَيْفٍ وَلَا يُؤَيَّنُ بِأَيْن"، "وَلَا تَآمِرُهُ إِنْ"، إلى آخر كلماته صلوات الله وسلامه عليه.
والحديث طويل، ففي بحث العقائد هنا، عنده حديث مفصل، وعنده حتى في المسائل التفصيلية الفقهية. إذ يسمع جماعة يتحدثون عن الآذان؛ لأن الرأي الآخر في مدرسة الخلفاء: إن الآذان، إنما كان عبر رؤية، رآها عبدالله بن زيد، فجاء وأخبر بها رسول الله، وبعضهم قال شخص آخر - فقال الإمام الحسين (ع): "يَنْزِلُ الوَحْيُ عَلَى نَبِيِّكُم بِالآذَانِ وَتَقُولُونَ هُوَ رُؤْيَةٌ رَآهَا عَبْدُاللهِ بْنُ زَيْد، وَيْحَكُم، الآذَانُ وَجْهُ دِينِكُم" شعار الصلوات، وأهم شيء في الإسلام: الصلوات، والصلوات شعارها الآذان، هو وجه الإسلام. فكيف يكون ناتجا عن رؤية. الإسلام الذي أتى حتى بآداب الدخول إلى بيت الخلاء، وماذا يستحب أن تصنع لما تدخل؟ ولما تخرج؟ وأتى بروايات وتوجيهات على ذلك، وجه الإسلام، إعلان الصلاة، إعلان العبادة، إعلان العقيدة، لا يأتي فيه بشيء! فالآذان يحتاج إلى بحث مفصل في هذا الجانب، هو وجه الدين كله، فيه شهادة، فيه توحيد، فيه حث على التنمية، على التقدم، على العمل الصالح، على العبادة، على خير الأعمال، على كذا. ترتيبه أيضا، أول ما تبدأ بالله، وآخر ما تنتهي بالله، فهذا السبك لا يمكن أن يأتي من خلال بشر، وليس في اليقظة، بل في النوم! يقول: يَنْزِلُ الوَحْيُ عَلَى نَبِيِّكُم بِالآذَانِ وَتَقُولُونَ هُوَ رُؤْيَةٌ رَآهَا عَبْدُاللهِ بْنُ زَيْد، وَيْحَكُم، الآذَانُ وَجْهُ دِينِكُم". فهذا وجه الدين، الشعار الأصلي، الدعوة إلى الفريضة، إنما هو قادم من منبع الوحي.
فالإمام الحسين (ع) كان - كما قلنا - بالإضافة إلى جوانبه الأخرى. وهذا الجانب العلمي. وأنا أرجو أن تكون هناك فرصة سواء للخطباء، أو للمثقفين، لكي يتطلعوا في هذا الجانب. فالوقت لا يسع كثيرا للحديث في هذا، وإلا فالإمام الحسين (ع) في زمان أبيه، كان عضد أبيه المرتضى صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك كان في زمان الحسن.
7/ وأما دوره في زمان الإمام الحسن المجتبى فقد كان ظل أخيه ، الذي تولى الخلافة والإمامة بشهادة أبيه، في سنة 40، وبقي على قيد الحياة إلى سنة 50، عشر سنوات. اتخذ الإمام الحسن (ع) خطة تتكون من أضلاع، منها: إغناء الحالة الشيعية التي تعرضت للإفقار على يد الأمويين. فالأنظمة الطاغوتية تفعل هكذا، فإذا أرادت أن تكسر مجتمعا، ماذا تصنع؟ تحوله إلى مجتمع فقير؛ لأن هذا الفقير يكون عاجزا، ثم ينشغل بحاجاته الخاصة عن أي شيء آخر. لذلك تفقره وتورطه في هذا الأمر. الأمويون صنعوا هذا. "مَنْ اتَّهَمْتُمُوهُ بِمُوَالَاةِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَاقْطَعُوْا عَطَاءَهُ وَرِزْقَهُ وَأَسْقِطُوْا اسَمَهُ مِنَ الدِّيوَانِ".
الإمام الحسن في مقابل هذا، كان بمثابة ضمان اجتماعي لهؤلاء الفئة، لذلك اشتهر بكثرة العطاء والجود. كرم الإمام الحسن (ع) كان ضمن خطة إنعاشية لذلك المجتمع المؤمن. فالأمويون حاولوا أن يسقطوا مثال أمير المؤمنين (ع) من النفوس، إمامة، وحكومة، وقيادة. والإمام الحسن في المقابل بلغ، وبشر، وسعى؛ لنشر فضائل أمير المؤمنين (ع).
الأمويون حاولوا أن يقتطفوا الكوادر، والرموز، والكبار، من شيعة أهل البيت (ع)، والإمام الحسن سعى لحمايتهم. نفس هذه الخطة، اتبعها الإمام الحسين (ع) من سنة 50 إلى سنة 60 للهجرة. وهذا يبين لنا أن ما يتصوره أو يزعمه بعضهم: من أن الإمام الحسن نفسيته كانت نفسية لين ومسالمة، وليست لقتال وحرب، وإنما لمصالحة، بينما الحسين ما شاء الله، رجل لا يتكلم عنده إلا السيف، وثوري هذا. فهذا كلام لا صحة له.
فلو أن الإمامة تأخرت بالحسن إلى زمان يزيد، لكان شهيد كربلاء. ولو أن الإمامة تقدمت بالحسين إلى زمان معاوية، لكان مسموما بطريقة الإمام الحسن (ع). نفس الأمر. فهذا ليس جانبا غيبيا الذي نعتقده، وإنما مقتضى الحكمة في إدارة الأمور. إذ نحن نعتقد أن الأئمة حكماء في إدارة القضايا الاجتماعية والسياسية. وقيام الإمام الحسين بعمل انقلابي - مثلا - في زمان معاوية، هو خلاف الحكمة، ولقد أصر عليه بعضهم، كجعدة ابن هبيرة ابن أبي وهب الذي أرسل إلى الإمام الحسين (ع) بعد شهادة الإمام الحسن، رسالة - وهو من خلص أصحاب أمير المؤمنين - وقال له: الآن الإمام الحسن انتقل إلى جوار ربه، ونحن في حل. فالحسن هو الذي وقع الاتفاقية، أما نحن ففي حل الآن، وعندك أنصار يا أبا عبد الله، فلننهض على هذا الرجل، يقصد معاوية. فكتب له الإمام الحسين (ع): "مَا دَامَ هَذَا الطَّاغِيَةُ" يعني: معاوية، "مَا دَامَ هَذَا الطَّاغِيَةُ عَلَى قَيْدِ الحَيَاةِ فَكُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُم". فنحن سنمشي على نفس العمل الذي سار عليه الإمام الحسن.
8/ عشر سنوات الإمام الحسين (ع) بقي على طريقة الإمام الحسن (ع)، ولم يتحرك بعمل انقلابي ثوري. فصحيح أن الثورة جيدة، لكن عندما تكون ظروفها، وليست مقدسة لذاتها. فالتحرك الانقلابي جيد، إذا كانت الظروف تقتضيه. وإنما إذا كانت تخالفه، فليس كذلك.
وقد فعل الحسين (ع) مثلما فعل الحسن (ع). فالإمام الحسين كان يجمع الحجاج في منى - وذكرنا هذا في وقت سابق لعله، أيام الحج – في منى -رزقكم الله يا من تسمعون الحج هذا العام، وفي كل عام، وأنا معكم إن شاء الله – لا توجد أعمال. فالناس بالذات في اليوم الحادي عشر، يرمون الجمرات، وينتظرون إلى الليل؛ لكي يبيتوا في منى. وذاك الوقت ليس مثل الآن، تذهب 10 دقائق للحرم، تؤدي أعمالك وتعود، لا. كانوا على الدواب، وكانوا يأخذون فترة طويلة. فكانوا يبقون في منى. أفضل وقت للتفاهم كان، فكان الإمام الحسين يدعو إلى مؤتمر عام للمسلمين، فيجتمعوا كل من فهناك، من الصحابة، ومن أبناء الصحابة، ومن الحجاج من خارج مكة المكرمة، فيبدأ يقرأ عليهم فضائل أمير المؤمنين (ع) وثبوت إمامته عن رسول الله (ص) وما يرتبط بأهل البيت (ع). وهؤلاء يأخذون هذه العلوم، وينشرونها في أماكنهم المختلفة. واستمر في هذا، إلى أن هلك معاوية في سنة 60 للهجرة.
15 رجب، من سنة 60، مات معاوية، عن عمر هو 78 سنة. فذهب بسيئاته، وحمل أيضا تبعات ما خلف، "مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةٍ فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرَ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَة"، فكل قطرة دم أريقت في زمان يزيد، وعلى يده، كانت بالتالي تنتمي إلى من نصب، ومن هيأ الأمور ليزيد، وهو: أبوه.
فجهز الأمور لكي يكون ابنه هو الخليفة. فاغتال بعض الشخصيات، واغتال الإمام الحسن (ع)، واغتال عبدالرحمن بن أبي بكر، وهذا بحث طويل أيضا، يحتاج إلى دراسة: ما الذي صنعه معاوية؛ لكي يمهد الأمور لمجيء يزيد، من عمليات قتل قام بها حتى في غير صفوف شيعة أهل البيت (ع). فعبدالرحمن بن أبي بكر يحتمل أنه كان ينازع – مثلا - يزيد، باعتبار أن أباه خليفة أيضا، وأكبر من يزيد سنا، فإذن لا بد على طريقة "إِنَّ للهِ جُنُودًا مِنْ عَسَلٍ"، وأنهى أمره. وكذلك بالنسبة إلى الإمام الحسن.
وبالتالي هذا أيضا قد لقي نفس المصير الذي أوصل إليه غيره، وشرب من نفس الكأس التي سقى بها الآخرين. فأتى يوم من الأيام وهلك، وذهب إلى ربه. فقام بالحكم خلفه يزيد بن معاوية، وأرسل على الفور رسالة إلى ولاته، ومنهم: الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان في ذلك الوقت هو الوالي على المدينة، وولاة المدينة والكوفة كانوا يتغيرون بشكل عجيب، باعتبار أن القضية ليست قضية كفاءة ولا أهلية. فأنا ذات مرة حاولت أن أرى: كم واحد تولى على المدينة وفي أي فترات؟ فعجزت في الواقع! لأنه أحيانا، هذا يتولاها بعد شهر، ثم يعزله ويأتي بواحد ثان لستة أشهر، ثم يعزله ويُرجع الأول! وهكذا، ولهذا بعض الروايات تأتي فتقول: كيف تولى هذا ولاية المدينة من هذا التاريخ؟ ولماذا بعدها بشهر مثلا، الوالي: فلان، وقبله بشهر: شخص آخر! هي كانت بهذه الطريقة، لا تعتمد على الكفاءة، وإنما على الأهواء والمحسوبيات.
الوليد ابن عتبة بن أبي سفيان، صار واليا على المدينة بعد مروان بن الحكم. ويظهر من عموم شخصية الوليد أنه ما كان شخصية صدامية كما كان مروان بن الحكم. فأرسل إليه يزيد: "خُذْ الْبَيْعَةَ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ عَامَّةً، وَمِنْ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ خَاصَّةً: مِنَ الحُسَينِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَبْدُاللهِ بْنِ الزُّبَيرِ، وَعَبْدُاللهِ بْنِ عُمَر، فَإِنْ قَبِلُوا وَإِلَّا فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُم".
الوليد بن عتبة أرسل خلف الحسين (ع)، وعندنا روايات تشير إلى أن الإمام الحسين كان قد علم بموت معاوية قبل وصول البريد. فالبريد - من دمشق إلى المدينة - استغرق حوالي 11 يوما. من 15 إلى 26 رجب، ثم وصل إلى المدينة. فالإمام الحسين استخبر بذلك. ولما استدعي، واستدعي معه عبدالله بن الزبير، سأله عبدالله بن الزبير: ماذا هناك؟ قال له: "ظَنِّي أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدْ هَلَكَ". إذ لا يريد أن يقول له: أنا لدي علم خاص.
فذهب الإمام الحسين (ع)، ومعه بنو هاشم، إلى دار الإمارة عند الغروب. وجعل الإمام أهل بيته على بوابة القصر، ودخل هو منفردا، في اجتماع خاص. فعرض عليه الوليد بن عتبة: أن معاوية قد مات، وأنت مدعو للبيعة.
الإمام الحسين محاور ذكي. والحوار يحتاج إلى ذكاء، وليس إلى عركة من أول يوم. وتبين أن الحسين كانت عنده هذه القدرات في صورتها الأعلى، فأراد أن ينهي الأمر بأسهل ما يمكن، ثم يقرر ما يراه مناسبا. فلما قال له: وأنت مدعو للبيعة. قال: "يَا أَمِيرُ، مَا أَظُنُّكَ تَقْبَلُ بِبَيْعَتِي سِرًّا"، لست أنا الشخصية التي تبايع منتصف الليل، دون علم أحد! أنا شخصية اجتماعية، عامة، ولا تفيدك أيضا بيعتي سرا، ولكن "نُصْبِحُ وَتُصْبحُونَ وَنَنْظُرُ وَتَنْظُرُونَ، أَيُّنَا أَحَقُّ بِالخِلَافَةِ"، فأراد أنه ينهي الاجتماع بهذه الطريقة. وهذه إحدى طرق التفصي في مثل هذه الزوايا الحرجة.
الوليد بن عتبة، قال له: "الأَمْرُ كَمَا تَرَى"، لكن مروان بن الحكم قال: "يَا أَمِيرُ، لَإِنْ فَاتَكَ الثَّعْلَبُ لَنْ تَرَى إِلَّا غُبَارَهُ. أَوْثِقْهُ كِتَافًا". كتِّفه، ثم أعرض عليه البيعة، "فَإِنْ بَايَعَ وَإِلَّا فَاضْرُبْ عُنُقَهُ. وَإِنْ أَبَيْتَ فَمُرْنِي حَتَّى أَضْرِبَ عُنُقَهُ". فالقضية لا تتحمل أن يخرج أو كذا أو يتفاوض أو غدا، الآن لا بد أن ينجز الأمر. الإمام الحسين (ع) رأى أن هذا الذي أمامه هو طريد رسول الله، لعين رسول الله، تاريخه، تاريخ أسرته، شر مجسد في إنسان، خبث مجسد في شخص، فقال: "يَا بْنَ الزَّرْقَاء"؛ لأن والدة مروان كانت معروفة في تلك الأزمنة، "يَا بْنَ الزَّرْقَاء أَنْتَ تَقْتُلُنِي أَمْ هُوَ؟! كَذِبْتَ وَخَسِئْتَ وَلَؤُمْتَ، أَنْتَ أَقَلُّ مِنْ أَنْ تَقْتُلَنِي".
هنا، الإمام الحسين قال هذا بصوت عال. فدخل أهل البيت بنو هاشم، يتقدمهم قمر العشيرة أبو الفضل العباس. فكيف الإمام الحسين يزعج، يؤذى، وهم أيديهم على مقابض سيوفهم. لم يتحملوا ذلك. لذلك أخذوا الحسين، وخرج الحسين لكي يودع أولا أمه أم سلمة، هذه المرأة التي تلت خديجة الكبرى في فضلها ومنزلتها وشرفها، سلام الله على خديجة وعلى أم سلمة.
فجاء مودعا إياها. وليس لدينا أخبار أنه ذهب إلى غيرها مودعا، فقسم من هؤلاء توفين، وقسم آخر لم تكن علاقة الحسين معهن إلى هذه الدرجة، فودعها: "أَبَا عَبْدِاللهِ، بُنَيّ، أَنْتَ خَارِجٌ إِلَى العِرَاق؟"، قال: "بَلَى"، قالت: "إِنَّ جَدَّكَ أَخْبَرَنِي أَنَّكَ تُقْتَلُ فِي أَرْضِ يُقَالُ لَهَا كَرْبَلَاء، الله الله فِي نَفْسِكَ، لَقَدْ أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللهِ، وَأَعْطَانِي التُّرْبَةَ التِّي أَنْتَ تُقْتَلُ فِيهَا"، فقال لها: "أَعْلَمُ بِذَلِكَ يَا أُمَّاهُ وَأَعْرِفُ مَصْرَعِي بِهَا".
خرج منها وجاء إلى قبر جده المصطفى، أنا وأنت والحسين، نودع قبر رسول الله (ص) بعد أن غفا - بأبي وأمي - فرأى رسول الله في المنام، قال: "يَا جَدَّاهُ يَا رَسُولَ اللهِ، خُذْنِي إِلَيكِ، لَا حَاجَةَ لِي فِي هَذِهِ الدُّنْيَا".

مرات العرض: 3419
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2590) حجم الملف: 20247.43 KB
تشغيل:

أحب الله من أحب حسينًا
حقوق الناس عندما تنتهك من السلطات