من فقهيات النهضة الحسينية
القضية الحسينية ، التي استمرت من حيث الزمان مدة تزيد عن خمسة أشهر ، وفيها احداث كثيرة ، وعلى رأسها إمام معصوم عند الشيعة ، أو صحابي عند عامة المسلمين ، تخللها الكثير من الإجابات على الأسئلة ، وصنعت أسئلة أخرى ! بالإضافة إلى ذلك كونها لا تزال حاضرة في الذاكرة الإسلامية ، فهي تثير أيضا من الأسئلة الكثير وتستلفت النظر إلى أجوبتها .
من هذه المواضيع : أسئلة ترتبط بأصل القضية : ـ الخروج على الحاكم الظالم ، ورفض البيعة لمن انعقدت بيعته بغير طريق شرعي ! وهذه من الأمور الأساسية : وبالرغم من أنها ربما تكون محلولة في ضوء الفقه الامامي إلا أنها بالنسبة إلى غيره لا تزال قضية جدلية ! مراجعة رأي السنة والسلفية .. فإن موقفهم غالبا من يزيد ليس سلبيا ، وربما جعل بعضهم ولايته شرعية ، وبالتالي عدم جواز الخروج عليه .. فإنهم يشترطون : لجواز الخروج : الكفر البواح الذي لا تأويل فيه ، ثم وجود القدرة والقوة على إزالته . ـ وإلى حد القتال والقتل ؟ ـ هناك قضايا في الواقعة : مثل جواز الاغتيال ( والإسلام قيد الفتك ) ، ( موضوع أنه صلى قصرا أو صلاة الخوف ؟ ) وهكذا في خروجه هل احل من احرام عمرة التمتع أو ما شاكل ؟ ـ وهناك قضايا ترتبط بأمور ما بعد الحادثة : جواز البكاء وعدمه ؟ مشروعية الاطعام ؟ مشروعية الوقف على شؤون الحسين وقضايا الحسينيات ؟ بناء الأضرحة ؟ وقبل هذا نشير إلى قضية جدلية يطرحها بعض المفكرين والباحثين ، وهي التساؤل عن مساحة الفقه .. فهناك من يتحدث منهم عن تضخم مساحة الفقه بحيث أصبح يأكل كل الحياة ، وأصبح الانسان محاصرا بالأحكام الفقهية ، وهناك دعوة إلى تخفيف هذا التدخل الفقهي في حياة الانسان !
والجواب عن ذلك : إن هذا يفهم بنحوين ، فتارة يقال إن الأحكام الفقهية ابتلعت مساحة الأحكام الأخلاقية والعقلية عند بعض الناس ، بحيث يعطل عقله من جهة ويهمل التعلق بالأخلاقيات ، منتظرا قول حلال أو حرام ، فهذا صحيح ، إذ أنه كما يوجد لدينا أحكام فقهية توجد لدينا أيضا منظومة أخلاقية لا بد من مراعاتها ، والجري على طبقها .. وإن كان المقصود أن الفقه ، له دائرة خاصة هي دائرة الأحوال الشخصية ( نكاح وطلاق ومواريث ) وأما باقي أبواب الحياة والمعاملات فهي من اختصاص مشرعي المجلس أو القانونيين ، فهذا لا يتناسب مع شمولية الدين واحكامه لكل الحياة ، وهذا معنى قولهم ، إن لله في كل واقعة حكما ، وعلى الفقيه وأهل الاختصاص البحث عنه ! نعود للموضوع الأول : ونتناول بحسب ما يرتبط بالمقام زمانا ومكانا .. أمر إقامة المآتم ، بكاء وصرفا .. وقد بحث هذا الموضوع الكثير من العلماء ، غير أن من أفضل من كتب ، كان من السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي : ت 1377 صاحب المراجعات ، في كتابه المجالس الفاخرة . * في موضوع الحزن على الامام عليه السلام ، يمكن أن تأتي العناوين المتعددة ، البكاء ، الرثاء ( شعرا ونثرا ) إقامة المأتم ، والعزاء .. والبحث فيه عادة يتجه نحو أمور : ما الدليل على مشروعيته ؟ والثاني ما يفهم من الأحاديث بخلافه ! والثالث ما هو نفعه وفائدته ..
بالنسبة للقسم الأول : هناك منهجان في الفقه ، الأول يعتبر أن المجتمع البشري صفحة بيضاء ، وأن الأحكام الشرعية جاءت لتكتب بالتفاصيل الدقيقة نظام حياتهم ، وبالتالي فحتى مثل إقامة المأتم على شخص يحتاج فيه إلى توجيه من النبي ، ولذلك يستدل هؤلاء على كثير مما لم يجز عندهم بأنه لم يكن على عصر النبي ولا الصدر الأول من المسلمين . والمنهج الآخر يرى بأنه لا بد من التفريق بين نحوين : العبادات والمعاملات ، فالأولى توقيفية بالكامل ، والأصل فيها التعبد .. بينما الثانية ليست كذلك ..وإنما الدين في الغالب يأتي ليقر أنظمة اجتماعية قائمة مؤكدا عليها كالبيع ، أو مصححا لبعض أجزائها كالمضاربة ، بل ومثل النكاح والطلاق ، أو نافيا بالكامل لها كالربا ونكاح الشغار .. ولا يستحدث في الغالب . فأما بناء على المنهج الثاني ، فإن هذه الممارسات ، أمور عقلائية لم ترد الشريعة بنهي عنها ، إذ أن الحزن على الأحباب والكبار بمختلف درجاته مألوف ، وأمامك ما كان من الخنساء( تماضر السلمية ت 24 هـ ) وأخيها صخر عند العرب .. مضرب المثل ، فعيناي كالخنساء تجري .. مع أن من بكت عليهما ( صخر ومعاوية قتلا في الجاهلية في أمور المنافرة والثأر !) قولها فيه
قَذىً بِعَينِكِ أَم بِالعَينِ عُوّارُ ... أَم ذَرَفَت إِذ خَلَت مِن أَهلِها الدارُ "
وَإِنَّ صَخراً لَتَأتَمَّ الهُداةُ بِـهِ ... كَأَنَّهُ عَلَــمٌ فـي رَأســِهِ نــارُ
وَإِنَّ صَخراً لَمولاِنا وَسَيِّدُنا ... وَإِنَّ صَخراً إِذا نَشتو لَنَحّارُ
وأما بناء على المنهج الآخر الذي يطلب في التفاصيل سنة ( أخبارا أو سيرة ) .. فإنه يورد أتباع مدرسة الامامية عددا غير قليل من الممارسات النبوية التي تفيد ليس فقط في إثبات أنه مشروع وجائز بل مستحب .. فقد ورد في الأخبار أن آدم بكى ابنه هابيل لما قتله قابيل .. وبكى يعقوب ابنه يوسف حتى ابيضت عيناه .. والسيرة القطعية للنبي صلى الله عليه وآله ، في تأبين شهداء الإسلام والبكاء عليهم ، بل على غيرهم .. فقد بكى على حمزة ، بل إنه لما رأى ما مثل به شهق ، وجاء إلى صفية بنت عبد المطلب فكانت إذا بكت بكى وإذا نشجت نشج ، وكان معه فاطمة فكلما بكت بكى النبي .. وعندما رأى نسوة الأنصار يبكين قتلاهن ، ولم يكن في ذلك الوقت بيوت كثيرة لبني هاشم ، قال : لكن حمزة لا بواكي له .. صارت الأنصاريات يبدأن النياحة على حمزة قبل نوحهن وبكائهن على أقاربهن . وبالنسبة لجعفر وزيد بن حارثة ، كان يبكيهما ويقول : هما أخواي ومؤنساي ..ولما قالت فاطمة ، واعماه ( توضيح القول ) : قال : على مثل جعفر فلتبك البواكي .. هذا على الشهداء : وعلى غير الشهداء مثل إبراهيم ابنه ، حيث أنه بكاه فقال له عبد الرحمن بن عوف : حتى أنت يا رسول الله ، ( ويظهر أن اتجاها لدى رجال قريش كان يخالف البكاء ويراه غير مناسب للرجال ! ) فقال إنها رحمة .. إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون .. بكاء فاطمة على النبي : في إرشاد الساري للقسطلاني : ماذا على من شم تربة أحمد ..
إشكال : ما ورد من أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه .. ورطة الجماعة في الحديث : إثبات العذاب من حديث عمر وابن عمر ، ونفيه من حديث عائشة ونسبتهما إلى الاشتباه وأن النبي لم يحدث بذلك ( والقسم بأنه والله ما قال رسول الله ذلك ) ، وإنما قال عن الكافر واستدلالها ولا تزر وازرة وزر أخرى . أو صرف البكاء إلى النياحة عليه بالباطل .. أو أنه مستثنى من ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ..) ! وكله غير صحيح .
صور من بكاء النبي على الحسين عليه السلام .. ابن عساكر : عبد الله بن نجي ( 1 ) ، عن أبيه أنه سافر مع علي بن أبي طالب - وكان صاحب مطهرته - فلما حاذوا نينوا - وهو منطلق إلى صفين – نادى علي : صبرا أبا عبد الله صبرا أبا عبد الله بشط الفرات . قلت : من ذا أبو عبد الله ؟ قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه تفيضان ، فقلت : يا نبي الله أغضبك أحد ؟ ما شأن عينيك تفيضان ؟ قال : بل قام من عندي جبريل قبل فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات وقال : هل لك أن أشمك من تربته ؟ قال : قلت : نعم فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم يسعني أملك عيني أن فاضتا . ابن عساكر : عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فقال : لا يدخل علي أحد . [ قالت : ] فسمعت صوته فدخلت فإذا عنده حسين بن علي وإذا هو حزين - أو قالت : يبكي - فقلت : مالك يا رسول الله ؟ قال : حدثني جبريل أن أمتي تقتل هذا بعدي [ وأشار إلى الحسين ] ! ! ! فقلت : ومن يقتله ؟ ! فتناول مدرة فقال : أهل هذه المدرة يقتلونه .[ يا أم سلمة إذا تحولت هذه التربة دما فاعلمي أن ابني الحسين قد قتل ] أنه دخل الحسن والحسين عليهما السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فشم الحسن في فمه الشريف وشم الحسين في نحره فقام الحسين واقبل إلى أمه فقال لها : اماه شمي فمي هل تجدين فيه رائحة يكرهها جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشمته في فمه فإذا هو أطيب من المسك ثم جاءت به إلى ابيها فقالت له : ابه لم كسرت قلب ولدي الحسين فقال صلى الله عليه وآله وسلم مم ؟ قالت : تشم اخاه في فمه وتشمه في نحره فلما سمع بكى وقال : بنيه اما ولدي الحسن فإني شممته في فمه لأنه يسقى السم فيموت مسموماً واما الحسين عليه السلام فإني شممته في نحره لأنه يذبح منالوريد إلى الوريد فلما سمعت فاطمة بكت بكاء شديداً وقالت : أبه متى يكون ذلك ؟ فقال : بنية في زمان خال مني ومنك ومن أبيه وأخيه فأشتد بكاؤها ثم قالت : ابه فمن يبكي عليه ومن يلتزم بأقامة العزاء عليه ؟ فقال لها : بنية فاطمة أن نساء أمتي يبكين عل نساء أهل بيتي ورجالهم يبكون على ولدي الحسين وأهل بيته ويجددون عليه العزاء جيلاً بعد جيل فاذا كان يوم القيامة انت تشفعين للنساء وانا اشفع للرجال وكل من يبكي على ولدي الحسين أخذنا بيده وادخلناه الجنة﴾