السيد أبو القاسم الخوئي : زعيم الحوزة العلمية
أهمية الحوزات العلمية بالنسبة للمذهب ، حيث أنه عاش على هامش الدول والحكومات ، فلم يكن له جهة حماية غير فقهه ودليله , بخلاف سائر المذاهب التي بقيت في متن الدول المسلمة إما على مستوى الحكم كما كان الحال في المذهب الحنفي أيام العثمانيين الأتراك ، والمالكي أيام العباسيين ، والشافعي أيام الأيوبيين والمماليك ، والحنبلي أيام السلاجقة , وفي ولايات الهند .
وهكذا الحال على مستوى المدارس الكلامية ، بين الاعتزال والأشاعرة ، ثم الماتريدية .ففي الوقت الذي رفعت يد السلطة عن المذهب الاعتزالي والذي كان مدعوما أيام ( المأمون والواثق ) انتهى هذا المذهب ونفي نهائيا من تصدر الساحة الاسلامية .
وبالرغم من أن المذهب الشيعي كان له من يناصره من الحاكمين ، مثل أيام البويهيين ثم الصفويين ، إلا أن اعتماده لم يكن على السلطات ، بل كان حتى في تلك الفترات رأي الكثير من العلماء الإنعزال عن الحالة السياسية وعدم التفاعل معها لكي لا يتأثر المذهب صعودا وهبوطا بها . ويشار هنا إلى مواقف العلماء تجاه الحالة الصفوية وأنها لم تشكل حالة عامة في المذهب !
هذه الجهة جعلت تركيز علماء الطائفة على استقامة وتقوية أمر الحوزات العلمية ، وتعميق البحث فيها والبناء على استقلالها عن السلطات . بمقدار ما جعلت أعداء المذهب والطائفة يتحركون في اتجاه إزالة أو اضعاف الحوزات العلمية .
هذا الأمر يفسر لنا الجهد الكبير الذي بذله علماؤنا بالرغم من قلة ذات اليد ، وكثرة المشاكل ، وصعوبة الأوضاع في أن تستمر الحوزات العلمية والبحوث ، وأيضا يفسر لنا الخطوات التي اتخذها الحزب البعثي في العراق لضرب الحوزة العلمية :
ـ قاموا بتهجير الكثير من العلماء بزعم أنهم ايرانيون في عدة دفعات من التهجير .
ـ قاموا بقتل وتهديد عدد من رموز الحوزة ، مواجهتم لمرجعية السيد الحكيم وقتل عدد من أولاده فيما بعد ، الشهيد الصدر ، والسيد المستنبط . الهجوم على منزل السيد جمال الخوئي .
ضمن هذا الاطار رأى بعض العلماء أن يوقفوا حياتهم على الجانب العلمي والتحقيقي ، دون الانشغال بشيء آخر عما عداه ، وذلك لتركيز الخط العميق العلمي في الحوزة العلمية ، وتخريج علماء كبار في هذا الاتجاه . والحفاظ على بقاء الحوزة العلمية والدرس فيها مهما تكن الظروف المحيطة .
وقد لا يعجب هذا الخط بعض الناس ، إذ كيف يمكن للعلماء أن يسكتوا أو يقعدوا عن الجهاد ذاهبين إلى الدرس وراجعين منه ، في الوقت الذي تتركز سلطة الظالم ، وتستمر المظالم ؟ إلا أن هذا هو تقديرهم لدورهم ، وأن الأمر مهم إلى هذه الدرجة .
يبدو أن الإمام الخوئي رحمه الله كان ممن يسلك هذا المسلك ، فمنذ أن بدأ في تدريس بحث الخارج مبتدئا من عمر الخامسة والعشرين كما نقل تلميذه الفياض وإلى سنة 1410 هـ أي قبل 3 سنوات من وفاته لم يتوقف عن التدريس والتعليم .
وإذا كان يعرف بعض التلامذة بأساتذتهم فإن الامام الخوئي بمستواه عرف بعض أساتذته !
في فهرس سريع في هذا الجانب يتبين مقدار جهد السيد الخوئي ونتائج ذلك الجهد :
* فقد درس كما قلنا حدود سبعين سنة ! أكمل فيها سبع دورات أصولية كاملة ( يقول الفياض في كتابه وكان في كل دورة يحضر درسه ما يقرب من 400 طالب علم ) ، ( والغالب أن العلماء يدرسون دورتين أو ثلاثا بالكثير ، نعم نقل عن الآخوند أنه درس سبع دورات ، ولكن الفرق أن دورة الآخوند الخراساني كانت مختصرة ، ربما تكون في 3 إلى أربع سنوات ) بينما دورات السيد الخوئي كانت مفصلة ! وهي ناظرة إلى بحوث من تقدمه ، وهم أعلام المدرسة الأصولية حيث بلغت أوجها حينئذ .
كما درس فيها مكاسب الشيخ الأنصاري ، مرتين بالبحث الخارج ، وهي في قسم المعاملات في الفقه .
ودرس أكثر أبواب الفقه على العروة الوثقى ، بحيث أن ما طبع من تقريرات طلابه في الفقه ، تجاوز الأربعين مجلدا . قرر بحوثه حدود 19 تلميذا من تلامذته .
وقد برع بشكل خاص في الأصول ، مع ملاحظة الإرتباط الكبير بين المباني الأصولية وبين الفقاهة ، وأنه لا يمكن التفكيك بينهما ، بل يمكن القول أنه كلما كان الشخص أدق في المسالك الأصولية كانت فقاهته أكثر ، خلافا لما يقوله البعض ( عن مقدمة كتاب الفياض).
وكان من ميزاته بالاضافة لقدرته العلمية ، بيانه الرشيق باللغة العربية الأمر الذي سهل على كل طلاب العلم أن يحضروا درسه وأن يستفيدوا منه .. وأهمية جودة البيان بالذات في المطالب العميقة واضحة .
قضية الانتفاضة الشعبانية في 1991 هـ .. اضطراب حبل الأمن في النجف وفقدان السلطة السيطرة عليها ، ثم خذلان قوات التحالف للناس ، اصدار السيد بيانات باتجاه حفظ الأموال والممتلكات العامة والخاصة ، وحفظ النظام ، وتعيين لجنة لذلك ، وعودة البعثيين ، اعتقال السيد الخوئي ، واجباره على مقابلة صدام ..
وأخيرا الروح العالية إلى خالقها ، وفاته مع أول تكبيرة من صلاة الظهر ، ثم الاعلان عن تشييعه في اليوم الثاني ، وإجبار السلطة عائلة السيد على أن تدفنه سرا الساعة 3 فجرا .. في 33 مشيعا من الكوفة إلى النجف !!