اثر الهجرات في تشيع لبنان
كيف بدأ التشيع في لبنان ؟
هناك رأي مشهور يقول بأن التشيع قد بدأ بواسطة أبي ذر الغفاري ، فإنه لما بدأ الاعتراض على الاستئثار الأموي أيام الخليفة الثالث ، نفي في البداية إلى الشام ، ولم يبق في عاصمتها وإنما سير إلى الأطراف البعيدة ، فكان ذلك سببا في أن تنتشر آراؤه في أهل تلك الأطراف خصوصا في الجنوب اللبناني .. وقد يستشهد أصحاب هذا الرأي بوجود مشهدين في الصرفند وميس الجبل ينسبان لأبي ذر الغفاري .. وقد تبنى هذا الرأي أكثر من كتب في هذه المسألة .. منهم الحر العاملي في كتابه أمل الآمل حيث قال إنه لم يسبقهم في التشيع غير عدد محدود في المدينة ، ومنهم السيد محسن الأمين العاملي في كتابه خطط جبل عامل ، غير أنهم لا يذكرون مصدر هذا القول .
غير أن أحد الباحثين المعاصرين وهو الشيخ جعفر المهاجر ، يفند هذا الرأي في كتابه التاسيس لتاريخ شيعة لبنان وسورية ، ويعتبره أسطورة ، بل يرى أن العملية هي عملية إسقاط ، فكما أن أهل جبل عامل كانوا قد رفضوا الاتجاه الرسمي فعوقبوا على ذلك بإبعادهم وإقصائهم وتهجيرهم ، فكان أبو ذر وما عاشه من المعاناة أفضل نموذج لهم .. ليتمثلوه ، ويرى أن المشهدين في الصرفند وميس الجبل ، هما ما يشبه النصب الذي يقام في البلدان لتكريم بعض الشخصيات .. / 35
ويختار رأيا آخر وهو أن تشيع لبنان كان على اثر هجرة ضخمة من القبيلة الشيعية المعروفة همدان ، وذلك انتقال الامام علي الى الكوفة واتخاذها عاصمة له سنة 36 هـ ( بعد حرب الجمل ) مباشرة .. كان لوجود الكثافة الشيعية فيها وبالذات قبيلة همدان ، و لم يكن فيها احد من ضبة أصحاب الجمل ..التي نزلتها عندما مصرت الكوفة . والكوفة كانت الخزان البشري الشيعي الأكبر حتى نهاية القرن الأول للميلاد .
قبيلة همدان الشيعية : التي أسلمت على يد أمير المؤمنين في اليمن ، حيث أقام فيهم سنة : الثامنة أو التاسعة كما في السيرة الحلبية . وكانت الكوفة محل إقامة الهمدانيين ، وكانوا مع علي إلى حد أنه لم يكن مع معاوية أي أحد من همدان كما في مروج الذهب .ويقدر عددهم في الكوفة التي كانت اسباعا بما بين 40ـ إلى 50 ألفا ، باعتبار أن عدد الكوفة كما في فتوح البلدان ، وخطط الكوفة حدود 300 ألف ..
( اليمن كان الخزان البشري لهجرات متعددة منها بنو قيلة الذين هاجروا إلى الحجاز واستقروا في المدينة وعرفوا فيما بعد باسم الأوس والخزرج ـ سيد حسن الأمين دولة الموحدين وكتابات أخرى .. ويعتقد أن هجرة بني عاملة إلى الجبل كانت حوالي 332 قبل الميلاد ) .
يعتقد المؤلف أن قبيلة همدان التي كانت الأولى في الكوفة من حيث العدد والدور ، تراجع وضعها للغاية بعد سيطرة معاوية على الأمور ، إلى حد أن الباحث يرى كأنهم قد تبخروا من الكوفة ، وآخر مشاركة فاعلة لديهم كانت أيام الإمام الحسن المجتبى ، فإنهم لم يشتركوا بفاعلية في قضية كربلاء .. ولا في حركة التوابين ، بل ولا المختار ولا ذكر لها أيضا في حركة عبد الرحمن بن الأشعث .. وهي فترة طويلة ( 61-83) .. وهذا كله يشير إلى هجرة همدان من الكوفة في معظمها .. تماما مثلما حدث للأشعريين ( من مذحج ) الذين هاجروا من الكوفة على اثر هزيمة بن الأشعث وقد كانوا شاركوا معه ! واتجهوا إلى قم .
من أوائل الهمدانيين الذين هاجروا : حنش بن عبد الله الهمداني ، قدم مصر بعد شهادة الامام وكان ضد الأمويين ، وتوفي بافريقية وولده في مصر . . ولم يكن مع معاوية من همدان أحد ،:
على اثر الأحداث التي تلت ( عام الجماعة ) هاجر الهمدانيون ، فسكن قسم منهم حمص ( الشام ) ولهذا خاطبهم عبد الملك بأنهم أهل الكويفة ـ مقرعا ومعرضا ـ ..
وذكر ياقوت الحموي بأن أهل حمص كانوا اشد الناس على علي ومع معاوية ( في أول الأمر) فلما انقضى ذلك الزمان صاروا من ( غلاة الشيعة ) . وقد أثر الهمدانيون في الحميريين الذين سكنوا إلى جانبهم في حمص ، أثروا فيهم مذهبيا .
يشير أبو واضح اليعقوبي في كتابه البلدان إلى أن في أطراف بعلبك قوما من اليمن // وكان ذلك في أواخر القرن الثالث.
ويلاحظ أن في بعلبك يوجد باب باسم باب همدان ، ويشير الذهبي إلى غلبة الرافضة على تلك الناحية .
****
التشيع في القرون التالية
وأما ناصر خسرو فقد وصف طرابلس في الثلث الأول من القرن الخامس ( سنة 438 ) بأن سكانها شيعة وأنهم شيدوا مساجد جميلة في كل البلاد . وعندما وصل إلى صور ذكر أن أكثر أهلها شيعة ..
والكراجكي وهو فقيه شيعي طرابلسي ( ت 449) صنف الأصول في مذهب آل الرسول ) وكان ذلك للإخوة بصور .. وسواء رأى بعض الكتاب أن أصله من طرابلس أو أنه ذهب إلى هناك لحاجة الناس للتعلم . فإنه يشير إلى وجود جمهور يتلقى هذا العلم والتوجيه .
همدان سكنت جبلة واللاذقية وهما مجاورتان لطرابلس .. وأما حلب فقد كان فيها الفقهاء من الطائفة .
بل امتد التشيع إلى أطراف فلسطين والأردن ، فهذا المقدسي في أحسن التقاسيم يقول ( ح 375 ) : أهل طبرية ونصف نابلس وقَدَس وأكثر عمّان شيعة .. وأهل طبرية هم قوم من الأشعريين كما في بلدان اليعقوبي ( والأشعريون من مذحج ) .
ويعطينا ابن جبير الاندلسي صورة عن دمشق وقد زارها في 580 فقال في كتابه الرحلة : وللشيعة في هذه البلاد أمور عجيبة وهم أكثر من السنيين بها ، وقد عمروا البلاد بمذاهبيهم المختلفة ! ثم يتحدث عن المشاهد المرتبطة بآل البيت في الشام .
عندما وصل المغول إلى البقاع اللبناني كان هناك موقفان : موقف غير شيعي ، تزعمه تقي الدين الحشائشي ، وهو طبيب شعبي استفاد من خبرته بالطب الشعبي ، ليقدم للمغول الوصفات الطبية ، وأنقذ جماعته بعد أن تزعم وفدا إلى دمشق وعاد من المغول بصك أمان !
وموقف شيعي نادى فيه بالجهاد فقيه شيعي بعلبكي هو أحمد بن الحسن بن ملي البعلبكي ، ( 617 _ 699 ) وظل يشن الغارات على طريقة حرب العصابات على المغول وكان معه قريب من عشرة آلاف شخص ! ( الفرق بين الموقفين ، ولماذا عندما فعلها نصير الدين الطوسي صار مغضوبا عليه ، بينما إذا فعلها غيره فهي عليه برد وسلام ؟ ) .
بعد اندحار المغول برز آل حرفوش ( الحرافشة ) كعائلة شيعية وصاروا اسياد المنطقة ..وشادوا فيها المساجد وظلت أمارتهم لمدة قرنين من الزمان . وفي نفس الفترة برزت كرك نوح كمركز علمي شيعي .
تواجد علماء الطائفة يشيرون إلى وجودها القوي في المنطقة :
الشيخ أبو الصلاح الحلبي صاحب كتاب الكافي ( 347ـ 447 ) / والسيد أبو المكارم بن زهرة صاحب كتاب غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع ( 511ـ 585 ) ، وبنو زهرة كان فيهم فقهاء وهم عشيرة كبيرة بحلب .
الشهيد الأول محمد بن مكي : ( 734ـ 786 ) ، وجاء في ترجمته أن قرأ على علماء جبل عامل .قبل أن يذهب إلى العراق . كما كان يتردد على دمشق لارشاد المؤمنين فيها ، وبعض كتبه ألفها ايام كونه فيها .
المحقق الكركي ( من كرك نوح في بعلبك ) ت 940 .. كانت دراسته في تلك المناطق .
( مع ملاحظة أن الجو العلمي عادة يتأسس في وجود مجتمع متأصل في منطقته ) .
الشهيد الثاني زين الدين بن علي ( 911ـ 966 ) .
والد الشيخ البهائي ( 918 ـ 984 ) نسبته إلى همدان .
صاحب المعالم بن الشهيد الثاني : ( 959 ـ 1011 ) .
الشيخ البهائي ( 954 ـ 1030 ) .
فترات سيطرة الدولة العثمانية وارتكاب المجازر بشأن الشيعة ، ولا سيما في عهد أحمد الجزار الذي يتحدثون عن مجازر ارتكبها بعشرات الآلاف .. فتوى جائرة : نوح بن حكيم الحنفي أصدر فتوى بحلية دم الشيعة وجواز قتلهم : و44000 في جبل عامل ، و40000 في حلب .على يد السلطان سليم الأول ( ت 925 ) .
سيطر آل حمادة على إمارة طرابلس حوالي سنة (1060 ) واستمر إلى قرنين من الزمان تقريبا .
ولكن العلاقات بين الشيعة وبين العثمانيين كانت في مد وجزر ، لكن المعدل العام لها كان هو العداء .
في العصر الحديث :
مع مجيء الفرنسيين كان الشيعة مع السنة يشكلون أكثرية سكانية بالنسبة للمسيحيين ، والشيعة كانوا يعادلون السنة ، غير أن الفرنسيين قاموا بتقسيم الوظائف على اساس أن المسيحيين والمسلمين متناصفون ، وأن الشيعة أقلية ، ولذلك لم يكن في التمثيل السياسي إلا شيء قليل .. وقد ذكر بعض المطلعين أن الوظائف الأساسية في الأمن والجيش ، والوزارات السيادية ليس فيها للشيعة نصيب مهم ،
مجيء السيد موسى الصدر إلى لبنان غير الوضع العام للشيعة ( التركيز على شخصية القائد المتميز في تحويل مسيرة المجتمع ) . ركز على التخصص والتعليم ولا سيما المهني منه .وربط بين الثروات الشيعية في الخارج والبناء في الداخل واستقطاب شباب الشيعة من الاحزاب الأخرى . ثم التحول الذي حدث من أمل إلى أمل الاسلامية إلى حزب الله .
الانتصار الذي حققه شيعة لبنان في موقعين : على اسرائيل في عام 2000 ، وفي الحرب الثانية عام 2006 .. غير الوضع العام وأثر على الشيعة في خارج هذه الدائرة ..