تشيع ايران هدية العرب
يمكن تقسيم تاريخ الشيعة في إيران إلى خمس مراحل :
ـ المرحلة الأولى : بدايات تشيع الموالي في العراق ، تشيعا سياسيا بحسب التعبير .
ـ الثانية : تشيع بعض المناطق مثل قم على أثر هجرة العرب إليها من أيام الأمويين .
ـ الثالثة : مرحلة قيام الدولة البويهية ، الذي يعتبر انعطافة مهمة في تاريخ التشيع في منتصف القرن الرابع.
ـ الرابعة : التزام بعض سلاطين المغول بالتشيع وإعلانه المذهب الرسمي في إيران في القرن الثامن .
ـ الخامسة : قيام الدولة الصفوية في منتصف القرن العاشر .
سوف يتبين من هذا العرض أن التشيع دخل إلى إيران من المناطق العربية في كل المراحل .. وأن الفرس كانوا ضيوفا على التشيع ومتأثرين به وليسوا صانعين له أو مضيفين ..
أيضا سيتبين مقدار الجهل الذي يكون لدى البعض حين ينعت الشيعة كلهم بأنهم صفويون غافلا عن أن الصفويين كما سيأتي هم أسرة كانت في أول أمرها غير شيعية فتشيعت ، وحكمت فيما بعد ، والتزمت بنشر المذهب .. ثم انتهت كما تنتهي باقي الأسر ، وهذا مثل أن يصف إنسان السنة بأنهم عثمانيون ! أو أنهم عباسيون !
ـ في المرحلة الأولى : كان الموالي الذين دخلوا الاسلام على اثر الفتوحات ، محلا لتمييز مارسه بعض الحاكمين ضدهم ، وسوء الظن في حقهم ، ولذلك ميز بينهم في العطاء في عهد الخليفة الثاني ـ بناء على اجتهاد منه ! ـ فيما رفض الامام علي هذا التمييز قائلا : إن الله لم يجعل لبني اسماعيل فضلا على بني اسحاق !
وتصاعد هذا الأمر أيام الأمويين حتى صار بمثابة القانون : فقد كان ممنوعا أن يتزوج الموالي من العرب بينما يصح العكس ، لكي يرث العرب الموالي دون أن يرثهم الموالي ! وكان عليهم أن يكونوا في الصفوف الأولى من الحرب ! وليس لهم أن يؤموا الصلاة ! بل ولا أن يقفوا في الصف الأول من الجماعة ! وكانوا يرون أن الموالي إنما خلقوا لأعمال من مثل كسح الطرق وتنظيفها ، وخياطة الثياب ورقع الأحذية ! وعندما تزوج أحد الموالي امرأة من بني سليم ركب أحدهم إلى المدينة وشكى ذلك إلى أميرها ففرق بين المولى وبين زوجته وأمر بضربه مئتي سوط وحلق رأسه ولحيته وحاجبه .. كيف يجرأ على ذلك ؟ بل وقالوا : إن أبغض الكلام إلى الله الفارسية ، وإنه إذا غضب الله أنزل الوحي بالفارسية وإذا رضي أنزله بالعربية ! وهكذا ..
هذه المواقف غير الصحيحة ، جعلت الموالي يرون في الامام علي تمثيلا تاما للاسلام ، وهم يسمعون كلامه ، ويرون معاملته الطيبة للموالي ، وفي طليعتهم سلمان الفارسي . غير أن هذا كان أشبه بالانتماء السياسي والاجتماعي منه بالانتماء العقدي والالتزام الفقهي .
المرحلة الثانية : تبدأ بما بعد ثورة المختار الثقفي ، حيث أن الكوفة التي كان محضنا للقبائل اليمنية الشيعية ، والتي شاركت بفعالية في ثورة المختار ، وواجهت والي بن الزبير بأنها لا تريد سيرة غير سيرة الامام علي عليه السلام ، ها هي الآن في مواجهة ابن الزبير الذي سيطر على الكوفة ، وعن قريب ستكون في مواجهة الأمويين الذين هزموا بن الزبير ، ولن يغفر لهم الطرفان مواقفهم في نصرة أهل البيت ، فكان أن هاجر بعضهم من الكوفة ، ويذكر هنا اسم ( السائب بن مالك الأشعري وهو شيخ الشيعة في الكوفة وكان قد لقي رسول الله صلى الله عليه وآله كما في فهرست الشيخ ، وهو صاحب الطلب من والي بن الزبير المتقدم ) ، يقول الحموي في معجم البلدان : ( هو أول من نزل قم من العرب ، وهو الذي نقل التشيع إلى أهلها ) ..
وجاءت نتائج ثورة عبد الرحمن بن الأشعث ضد الحجاج معكوسة ، وتسلط الحجاج لكي يهرب منه .. أبناء سعد بن مالك بن عامر الأشعري الأربعة إلى قم والتحقت بهم قبائلهم وأقاربهم حتى غلبوا على قم ، في حوالي سنة 83 هـ ..
واستمر تواصل الأشعريين العرب مع الأئمة ، وهم في ايران فنحن نجد عددا غير قليل من أصحاب الامام الرضا وأبنائه عليهم السلام ، من الأشعريين .. وعندما توعكت السيدة فاطمة بنت موسى بن جعفر في الطريق وكانت في ساوة اختارت النزول في قم في دار موسى بن خزرج الأشعري ، مع بعدها بعشرة فراسخ ! وعندما أشخص الإمام الرضا أمر المأمون قائد القافلة الرجاء بن الضحاك أن لا يمر على طريق الكوفة وقم ، وإنما يأخذ طريق البصرة فالأهواز ففارس فخراسان .
مع هذا الانتقال انتقل علم أهل البيت ورواياتهم إلى قم ، من الكوفة ( فهذا ابراهيم بن هاشم ) أول من نقل حديث الكوفيين إلى قم ، بل إن الناقلين عن الكليني أكثرهم قميون ورازيون .
تحولت قم إذن إلى منطقة شيعية خالصة ، وإلى مركز علمي متميز ، ,إلى ملاذ آمن لكل من أراد النجاة من بطش العباسيين ، فأثرت على المناطق المجاورة بالتدريج ، فصارت ( آوة ، وكاشان ، وفيما بعد الري من المناطق الشيعية ) . وهذا يعد من التطور الطبيعي ، في تأثر المجتمعات ، أي لم يكن هناك حركة سياسية أو حالة عسكرية تحمي هذا الوجود ، وإنما هو تأثر اجتماعي ، وحراك فكري خالص ..
المرحلة الثالثة : مجي البويهيين : 320 ـ 447 .. الوالد أبو شجاع بويه ، كان صياد سمك ، ربى أبناءه الثلاثة (علي والحسن ، وأحمد ) تربية حازمة ، ولذا فعندما دخلوا في خدمة الدولة الزيارية ( مرداويج ) واستقلوا بمنطقة صغيرة ، أداروها إدارة جيدة ثم بدؤوا يتوسعون فسيطروا على إصفهان وكرمان وأخيرا دخلوا إلى بغداد وأبقوا الخليفة العباسي لكنهم كانوا الحكام الفعليين .. وكان شيعة إمامية ـ خلافا لإدعاء كونهم زيدية ـ ، وكان لوجودهم على رأس السلطة دور مهم في أن ينطلق علماء الشيعة بحرية في نشر علوم المذهب ، فكان الشيخ المفيد في بغداد ، والسيد المرتضى ، وكان والد الصدوق وابنه في قم والري ، وأشاعوا أمور المذهب وأظهروا شعائره مثل الغدير وعاشوراء والأذان ..
وفي هذه الفترة توسع التشيع في كثير من بلاد إيران ، ولكنه لم يعلن مذهبا رسميا من قبل الدولة البويهية ، ربما يكون ذلك من أجل حالة من الانفتاح كانت لديهم على بقية المذاهب التي بقيت تمارس نشاطها المعتاد من غير تضييق في أكثر الأحوال .. إلى أن سقطت دولتهم على يد السلاجقة .
المرحلة الرابعة : بدايات القرن الثامن ( حوالي سنة 710 هـ ) الشيعة في زمان المغول : أسقط المغول الخلافة العباسية ، وسيطروا على العراق وغيرها من البلاد المسلمة .. وبعد أن زاح دخان المعارك ، تأثر كثير منهم بالفكر الاسلامي والعقائد الدينية العامة ، غير أن قضية المذاهب كانت قضية ساخنة ، فبالرغم من أن بلاد المسلمين كانت قد تعرضت إلى تلك المشاكل إلا أن الصراعات المذهبية كانت على أشدها .. وكان كل فريق يريد أن يستقطب شخصيات المغول لمذهبه ويبعدهم عن المذهب الآخر لكي يقوى المذهب ..
يقال : إن بعض السلاطين المغول مثل غازان خان اتخذ موقفا متوسطا بين المذاهب فكان يتعاطف مع الجميع ، ويسمح للجميع بممارسة نشاطه ..وإن كان يميل إلى التشيع ..
إلا إن اختيار السلطان أولجايتو محمد خدابنده التشيع صراحة وإعلانه اياه على انه المذهب الرسمي ، وتغيير الخطبة لكي تصطبغ بصبغة شيعية ، والتظاهر بالشعائر الشيعية ، شكل دفعة قوية لانتشار المذهب ..
فإنهم يذكرون في تشيعه عدة حوادث :
منها أنه مل من النزاع الحاصل بين الشافعية والاحناف فكل منهم يشوه له مذهب الآخر ، فاقترح عليه سيد تاج الدين الأوجي أن ينظر في التشيع .
ومنها : أنه غاضب زوجته فطلقها ثلاثا في مجلس واحد ، وكان يفتش عن مخرج لا ينتهي إلى أن تنكح زوجا غيره ..
فكان أن استقدم العلامة الحلي ، الذي ناظر بقية المذاهب وفاقهم ، فأعلن السلطان تشيعه .
المرحلة الخامسة : الدولة الصفوية بدايات القرن العاشر إلى منتصف القرن الثاني عشر ( 906ـ 1148 ) : صفي الدين كان من الصوفية السنة فتشيع أبناؤه ، وبدؤوا في السيطرة على تبريز ثم بالتدريج سيطر الشاه اسماعيل وهو أهم الصفويين على كل ايران ، ثم تطلعوا إلى السيطرة على العراق ، ودخلوا في صراع عنيف مع العثمانيين ، وقد اتخذ هذا الصراع صورا طائفية من الطرفين ..
بطبيعة الحال كانت البلاد تحتاج ـ مع إعلانها شيعية ـ إلى ثقافة دينية فاستعان الشاه اسماعيل ومن بعده بعلماء جبل عامل ، فاستقدموا الشيخ الكركي ، ووالد الشيخ البهائي ، والبهائي نفسه ، وغيرهم مما ذكرهم مؤلف كتاب الهجرة العاملية إلى بلاد فارس .
• استنتاجات :
• إن أكبر عامل مؤثر في انتشار التشيع في ايران هو العرب ، سواء في مرحلة قم ، حيث كان السائب الأشعري . أو فيما بعد حين هاجر الاشعريون ، أو في المرحلة الثالثة في تأثير العلامة الحلي ، أو في أيام الصفويين ..
• إن هناك حالة من عدم الايمان الحقيقي بقضية المساواة على ضوء الاسلام ، وهي ما هو موجود عند أدعياء القومية ، وهذا ما سبب حالة من القومية المضادة ، أطلق عليها اسم الشعوبية .. وكلا الجهتين كانت متطرفة ..
• تجلى في كربلاء أرفع صور المعادلة والمساواة بين الموالي وغيرهم .. فأنت ترى أن الحسين قد وضع خده على خد شبيه النبي وعلى خد جون .