الرفق والسلام عنوان الدين

محرر الموقع
من كلام لسيدنا ومولانا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه قال للحارث الهمداني (وخادع نفسك في العبادة و ارفق بها ولا تقهرها وخذ عفوها ونشاطها إلا ما كان مكتوب من الفريضة فتعاهدها على قضائها عند محلها )صدق سيدنا ومولانا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه . انتهى بنا الحديث في الليلة الماضية إلى أن من أسباب العنف في مجتمعاتنا المنهج الفكري المغلوط ..عدم التوازن في فهم العقيدة وعدم التوسط في معرفة الشريعة ..هذا الأمر كما تقدم هو الذي يشكل الأرضية المناسبة لتوجهات العنف سواء في الأفكار أو في السلوك الاجتماعي أو في السلوك السياسي .. نحاول أن نتناول ما يفترض من مفردات لحل هذه المشكلة ضمن النهج الإسلامي كما نستفيده من كلمات أمير المؤمنين ومن سيرته .. بقيت هناك نقطة من حديث البارحة نستكملها هذه الليلة ثم نبدأ في الكلام عن الجانب الآخر المضاد للعنف وهو ما يصطلح عليه في كلمات أهل البيت بالرفق ما بقي من بحث يرتبط بالليلة الماضية هو أن من مناشئ العنف أيضا إضافة إلى المنهج الفكري الخاطئ ..من منابت العنف وجود أوضاع الكبت في المجتمع ..فالمجتمع الذي يعيش الكبت ويعيش الاضطهاد ويعيش حالات القهر من دون أن يجد متنفسا له بشكل طبيعي ينفجر في دوامة عنف لا يسيطر عليها لا الفاعل ولا المصاب.. فلا القائم بالعنف يستطيع أن يسيطر على حدود هذا العنف ولا المقاوم له ولا المدافع عنه أو المصاب به يستطيع أن يسيطر على دوامة العنف هذه أبدا.. كلاهما لا يستطيعان وذلك مثاله العرفي الواضح كما لو كان لديك قدر ووضعت فيه مقدارا من الماء وبدأت تسخنه ولو على نار هادئة ..إذا أحكمت إغلاق غطاءه بحيث لا يجد هذا البخار متنفسا له فإنه بعد عدة ساعات ولو كانت النار هادئة إلا أن هذا القدر مهما بلغت سماكة جداره الفولاذي لا يلبث أن ينفجر.. وهذه مسألة واضحة في الحياة الاعتيادية ..لذلك حينما يقولون قدر الضغط أيضا مع ذلك يجعلون له ضمن درجة معينة ..إذا تزايد البخار وتزايد ضغطه يجعلون له عند تلك الدرجة متنفسا وإلا ينفجر ويدمر ما حوله . هذا البخار عند ضغطه يتحول إلى قوة مدمرة قوية بينما إذا فسح له المجال لا يصنع شيئا أبدا ..كذلك الأمر بالنسبة للمجتمع .. فالمجتمع إذا كان يعيش حالات الكبت و الضغط .. لا يلبث بعد مدة من الزمان أن ينفجر في فورة عنيفة قد لا تبقي ولا تذر ..أما إذا كان هذا الضغط يجد له متنفسا ضمن ممارسة حرة فإن هذا المجتمع سيكون مصونا عن هذه الحركات العنفية ..ولذلك وجدنا البلاد التي فيها مقدار من الحرية أو الديمقراطية أقل تعرضا لدوامة العنف من البلاد الأخرى التي لا تعيش ذلك المقدار من الحرية ..طبعا الحرية المطلوبة ليست الحرية المطلقة لأن هذه أيضا ليست في صلاح المجتمع بل لابد أن تكون مقيدة بحدود وموازين . لقد نقلوا أن الخليفة العباسي المأمون ، بنى قصرا وجاء الناس يهنئونه ، بينما كان أحدهم يكتب على جدار القصر أبيات من الشعر : يا قصر جُمّع فيك اللؤم والشوم متى يعشعش في أرجائك البوم ؟ متى يعشعش فيك البوم من فرح أكون أول من يرعاك مرغوم وبطبيعة الحال فقد قبض عليه وأخذ إلى الخليفة ليلقى عقابه ، وسئل لماذا كتب ما كتب ؟ وما الذي حدى به أن يقول هذا الشعر ؟ وما معناه ؟ ولماذا يتمنى أن تعشش البوم في هذا القصر وهذا كناية عن خرابه وموت أهله ؟ قال له ( المأمون ) : ويلك ! ما حملك على هذا ؟ فقال : يا أمير المؤمنين , انه لا يخفى عليك ما حواه قصرك هذا من خزائن الأموال والحلي والحلل , والطعام والشراب والفرش والأواني والأمتعة والجواري والخدم وغير ذلك مما يقصر عنه وصفي , ويعجز عنه فهمي .واني قد مررت عليه الآن وأنا في غاية الجوع والفاقة , فوقفت مفكرا في أمري , وقلت في نفسي :هذا القصر عامر عال , وأنا جائع , ولا فائدة لي فيه , فلو كان خرابا ومررت به لم أعدم رخامة أو خشبة أو مسمارا أبيعه وأتقوت بثمنه , أوَما علم أمير المؤمنين رعاه الله قول الشاعر : اذ لم يكن للمرء في دولة امرىء نصيب ولا حظ تمنى زوالها وما ذاك من خبث به غير انه تمنى سواها فهو يهوى انتقالها وهذا التبسيط للمسألة صحيح ، فإن الشخص إذا لم يحصل على ما يتمناه في ظل دولة معينة ، فإنه يتمنى أن تزول هذه الدولة وأن يكون في ظل دولة أخرى حتى يحصل على ما يريد ، وليس ذلك لجهة خباثته أو سوء نفسه .فهذا مثل أن يقول الشخص : اللهم غيّر سوء حالنا ..فإنه يطلب مكانا جديدا ودولة جديدة ووضعا جديدا ..هذه الحادثة تشير إلى هذا المعنى .والمفروض أن لا يعاقب هذا القائل لأجل تمنيه زوال القصر أو خرابه ! ثم إن بعض الناس يتصور أن موقع الأخلاق في الإسلام هو موقع كمالي وإضافي والحال أنه ليس كذلك ، بل لو أردنا أن نصور الإسلام كجسم ..يمكن أن نقول أن الإيمان هو القلب والأحكام هي الأعضاء والجوارح كاليد والرجل وأما الأخلاق فهي الدم المتحرك بين القلب وبين الأعضاء . لقد قال الرسول ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ).ومن ذلك يتبين أن موقع الأخلاق ليس كماليا، وإنما هو موقع إستراتيجي مهم ، وقد ذكرنا في موضع آخر كيف أن العدل يدخل في القضية الإعتقادية ويدخل في السلوك الشخصي ويدخل في الحركة الاجتماعية ويدخل في المسألة الفقهية.. الرفق طريق سالكة في العبادة والمجتمع الرفق أيضا هو من هذا القبيل كما سيتبين بعد قليل فهو مطلوب بالنسبة للآخرين ، ومطلوب في العبادة ، ومطلوب في معالجة الأمور المختلفة وحل القضايا المعقدة . فحتى العبادة مع أنها هي المقربة إلى الله يقول لك توسط فيها ، ولا تقسر نفسك عليهاـ في المستحب ـ لا تجبرها عليه بل ارفق بها وخادع نفسك في العبادة ..هذه وصية الإمام أمير المؤمنين للحارث الهمداني . إن الرفق بالنفس في أمر العبادة يجعلها تقبل عليها بشكل دائم ، وإما لو قسرها على المستحبات ، وكانت النفس في إدبار ، فإنه لا يؤمن أن تسأم النفس العبادة ! عندما يريد أمير المؤمنين  أن يذم الخوارج فإنه لا يذمهم بعدم عبادتهم (!) كيف وقد سبق أن ذكرنا أنه ما من صاحب بدعة إلا وهو كثير العبادة ، ولكنه يذمهم بشيء آخر وهو : انعدام الوعي والتعقل فيقول له : ( وأنتم معاشر أخفاء الهام سفهاء الأحلام ) فهذه الهامات والرؤوس فارغة ، ليس فيها شيء ، والعقول والأحلام سفيهة ! مع أن عبادتكم كثيرة ..لكن المهم هو هذا الجانب السلام قيمة أخلاقية حضارية : من المفردات الأخلاقية التي يؤكد عليها ـ تبعا لدورها ـ مفردة السلام ، ولو تأملنا فيها لوجدنا أنها تبدأ من الله وتمر بالعباد وتنتهي بيوم القيامة ؛ فالله هو السلام ومنه السلام وإليه يرجع السلام . إن قليلا من الصفات وردت بنحو المصدر، فإنه قد جاء في القرآن الكريم أن الله ملك وقدوس ، ومهيمن وعزيز وجبار ، وهذا طبيعي أن توصف الذات بصفة ، ولكن أن توصف بالمصدر فهو قليل ، وقد جاء في وصف الذات الالهية أنه ( السلام ) ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) . كما وردت هذه الكلمة في وصف ليلة القدر وأنها ( سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) .. وورد أن تحية الملائكة لأهل الجنة هي السلام ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) مثلما أن التحية الرسمية للمسلمين في الدنيا هي ( السلام عليكم ) . إن هذه التحية بما تحمل من أبعاد لتشير إلى معنى أن الإسلام يريد أن يشيع السلام في العالم وبين الناس جميعا .فهذه التحية عندما يلقيها الانسان المسلم على من يمر عليه يعلن السلام معه ، وأن العلاقة التي تربطني بك ليس علاقة جرب أو اعتداء ، أو فتك ، فليس لك من جانبي سوى السلام والأمن . والمفروض أن يتعمق الانسان في هذا المعنى وأن يعمل به ، وإلا فليس من الصحيح أن يعلن بلسانه السلام بينما يكون عمله في اتجاه الحرب والاعتداء . وبلغت أهمية هذا ـ في المعنى ـ أننا نجد أن الصلاة تبطل بتلفظ حرف واحد زائد متعمدا ، لكن الفقهاء يقولون أنه لو سلم عليك أحد وأنت في الصلاة فيجب عليك رد سلامه مع أنها كلام زائد عن الصلاة ! فكأن الشرع هنا يوجب عليك رد السلام و التحية لأن فيه إشاعة الأمن في المجتمع . وهذا لا يقتصر على المسلمين فقط ، وإنما يتسع ليصل إلى الحالة الانسانية ، فحتى غير المسلم يكون مشمولا لسلام المسلمين ، فهذا أمير المؤمنين  يقول في وصيته لمالك الأشتر النخعي ، وعهده إليه : وأشعر قلبك الرحمة لهم ( للرعية وجميع المواطنين ) فإن الناس إما أخ لك في الدين ( أي مسلم ) أو نظير لك في الخلق (أي شريك لك في الإنسانية) نعم هناك موارد معينة يختلف الأمر فيها كما هو الحال في موارد الجهاد مع الكافرين ، حيث أن هؤلاء يمنعون نشر السلام والإسلام . فليست المشكلة في الاختلاف الديني ، إذ أن الاسلام يحاول أن يضيق هذا الاختلاف باستعماله لمصطلح أهل الكتاب غالبا ، أكثر من استعماله لكلمة اليهود والنصارى .واستعماله هذه الكلمة كأنه يراد منه التركيز على نقطة الإشتراك بينهم وبين المسلمين وهي أن الجميع لهم كتاب سماوي . الفرق بين الحزم والعنف : قلنا إن الرفق مطلوب سواء في الحياة الشخصية و العائلية أو في الحياة الاجتماعية و السياسية .. والرفق ضده العنف ، فإن ما يساوي العنف حسب تعبيرات الأحاديث هو الخرق :فعن رسول الله صلى الله عليه وآله (ما وضع الرفق على شيء إلا زانه وما وضع الخرق على شيء إلا شانه )، وفي حديث آخر عنه : الرفق يمن والخرق شؤم ، وعن أمير المؤمنين  ( رأس العلم الرفق وآفته الخرق ) . غير أنه يحدث أن يتم الخلط بين الحزم وهو صفة مطلوبة ، وعامل نجاح فعن أمير المؤمنين  ( الظفر بالحزم ، والحزم بإجالة الرأي ) ، وعنه ( ثمرة الحزم السلامة ، وثمرة التفريط الندامة ) و ( اصل العزم الحزم وثمرته الظفر ) وعن الصادق  ( من كان الحزم حارسه والصدق جليسه عظمت بهجته وتمت مروته ) ، وبين العنف والخرق ، وهو خلق سيء ، وعنصر فشل وتخريب ! والربط بين العنف والحزم ربط غير صحيح ، فإن الحزم هو السيطرة على الأمور وأخذها بجدية وقد يكون من السيطرة عليها أن تأخذها برفق ولين ، فقد نقلوا أنه جاء رجل إعرابي إلى رسول الله محمد فبدأ يتكلم مع رسول الله بعنف ويرفع صوته قائلا : أعطني من مال الله لا من مالك ولا مال أبيك ! فهاج أصحاب النبي لتأديبه ! فأشار إليهم النبي أن يجلسو ا أشار إليهم فأسكتهم ثم أعطاه حمل بعيرين ، وأقبل عليهم ضاربا لهم المثل :مثلي ومثلكم كمثل رجل ندت عنه إبله وهربت ناقته فركض الناس خلفها وهي تزداد هربا، حتى جاء صاحبها وأمرهم بأن يتنحوا عنها وأخذ عشبا وقربه منها فرجعت إليه . إن الحزم هنا هو في أن يستميل هذا الأعرابي الجافي ، وأن يقبل منه ويعفو عما فعل . وأما لو أخذ جانب العقوبة والعنف لكان مفسدا . وقد يكون الحزم في موضع آخر هو في التزام جانب الشدة وعدم التراخي ، وعلى أي حال فليس هناك تساو أو ترادف بين الحزم والعنف .