الخوارج ومنهج العنف

محرر الموقع
قال أمير المؤمنين  مخاطبا الخوارج ( فإن أبيتم إلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت فلما تضللون عامة أمة محمد بضلالي وتأخذونهم بخطأي وتكفرونهم بذنبي سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب وقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله رجم الزاني المحصن ثم صلى عليه ثم ورّثه أهله وقتل القاتل وورّثه ميراث أهله وورّث ميراثه أهله وقطع يد السارق وجلد الزاني غير المحصن ثم قسم عليهما من الفيء ونكح المسلمات فأخذهم رسول الله بذنوبهم ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ) . هذه الخطبة محاكمة لمنهج فكري خاطئ كان يسير عليه الخوارج .. وهذا المنهج بالرغم من أنه قد بدأ مع الخوارج تاريخا إلا أنه لا يزال مستمرا في حالات كثيرة ، في عالمنا الاسلامي ، حيث لا تزال الدماء تسيل والأرواح تزهق ، والدمار يسيطر ، وكل ذلك من نتائج هذا المنهج الخاطئ . الخوارج ـ فيما نعلم ـ هم أول من استخدموا العنف اللفظي ـ والذي كان أبرز صوره تكفير الإمام ومطالبته بالتوبة عن كفره ! ـ ثم العنف العسكري حيث كانوا يقتلون مخالفيهم في الفكرة لمجرد المخالفة ويستحلون دمهم ، كما حدث بالنسبة لعبد الله بن خباب بن الأرت وزوجته . وانبعث هذا الفكر العنفي من جديد في عالمنا الإسلامي فأين ما التفت تجد آثار هذا العنف قائمة تحصد الأخضر واليابس ، وتطال المحق والمبطل ، وتبيد ذا العلاقة وغير ذي العلاقة ..في الجزائر حسب ما قالوا إلى الآن بلغ ضحايا هذا العنف من الطرفين ستين ألف إنسان خلال أربع سنوات .. وهذا يعني أنه يقتل في كل يوم قرابة ثلاثمائة روح انسانية !! ، لو تصورنا أن مزرعة تذبح كل يوم ثلاثمائة دجاجة لكان شيئا كثيرا. في أفغانستان بلغ عدد القتلى الذين سقطوا في المواجهات بين الفئات الإسلامية أكثر من عدد القتلى الذين سقطوا في مواجهة الاحتلال الروسي .. وتجد في باكستان صورة قريبة من هذا ، وفي باقي بلدان العالم الاسلامي . وبالرغم من تعالي الصيحات محذرة من الاستمرار في هذا المسلسل ، والتداعي إلى مؤتمرات أمنية والقيام بمعالجات عسكرية وغيرها ..إلا أن السؤال المهم : لماذا يحصل هذا ؟ إن المثل المعروف القائل : ( على أهلها جنت براقش ) و ( سمّن كلبك يأكلك ) لينطبق على حال الأمة ووضعها . لقد تم ترسيم منهج في الثقافة و التعليم .. وكان هذا المنهج بذرة أنتجت الحنظل ..بل النبتة المفترسة .. هذا العنف السائد ليس عنف السلاح وإنما هو في البداية عنف الفكر فإذا أردنا أن تعالج الآثار فلابد أن يعالج الأساس والبذرة التي أنتجت هذا البلاء .. ما هي أبرز ملامح هذا المنهج الذي ينتج العنف ؟ ينبغي أن نلاحظ تاريخ الخوارج في صدر الاسلام حيث أنهم كانوا يشكلون التجربة الأولى لمنهج العنف ، فلندرس حياتهم وفكرهم ، والذي يتكرر اليوم في صور هذه الحركات العنيفة فكرا وسلوكا . فمن مظاهر هذا المنهج : التنطع في العبادة والتقدس الزائد والتكلف فيما لم يوجبه الشرع ، لقد كانوا يضيقون على أنفسهم ما هو واسع في الشرع ، يوجبون على أنفسهم مالا يجب شرعا ويحرمون على أنفسهم مالا يحرم شرعا ..مبالغة منهم في زعمهم في الاجتهاد والعبادة. ولقد شبه في بعض الأحاديث حال الخوارج هنا في التضييق على أنفسهم بما صنعه بنو اسرائيل عندما أمروا أن يذبحوا بقرة فظلوا يسألون عن صفاتها ، وعما هي ، وما لونها .. إلى الأخير ( فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) ، فإنهم على أثر هذا التكلف والتعقيد يكادون أن لا يلتزموا بالأوامر الالهية .. وهناك أثر ذو معنى يقول : ( ما من صاحب بدعة إلا وهو أشد اجتهادا من غيره في العبادة ) أي أن صاحب البدعة شديد الاجتهاد في العبادة .. فبينما غيره يجتهد في المعرفة والوعي ويسعى لتحصيل العلم ، ومن ثم فإنه لو قصّر في مستحبات العمل لا يضره ذلك ضررا كبيرا.. بينما في المقابل يوجد حديث معناه (لا يضر المرء بعد المعرفة ما عمل ) فإذا كانت معرفته بربه وبنبيه وإمامه تامة لا يضره آنئذ أن يكون عمله في الخير كثيرا أو كان عملا قليلا مقاربا .. أما من كان صاحب تنطع في دينه ، فإنه كلما زاد اجتهادا في العبادة زاد بعدا ، وذلك أنه يرى نفسه لا سواه ، ويضلل عامة الناس ممن ليس على رأيه ويستكبر عليهم ، بل ربما كاد لهم ، واعتدى عليهم كما نجد هذا عند كثير من أصحاب هذه المناهج . ولأجل هذا الدور الذي يمثله الوعي والمعرفة في تقدمه على العمل والعبادة كان من الأدعية المهمة المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام ويدعى به في هذا الزمان (اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني ) . ومن مظاهر هذا المنهج تكفيرهم المسلمين : فإن المسلم المخالف لهم في حكم المشركين والكفار ، والدار التي يكون إمامها كافرا ( ولهم مقاييس خاصة في التكفير ، فإن من حكم بحكم غير شرعي فهو كافر ، ومن ارتكب معصية كبيرة فهو كافر ) هذه الدار دار كفر ولا بد من هجرتها ، وهذا ما يشير إليه الامام  في خطابه لهم ، فيقول أنه لو فرضنا ان الامام ضال فلم تضللون الأمة بتبعه ؟ ولم تكفرونها بذنبه ـ لو كان مذنبا ـ ؟ ويرتبون أحكام الكفر على أطفال المسلمين المخالفين لهم فيجوزون قتلهم وعلى نسائهم فيحرمون نكاحهن والزواج بهن ففي رسالة من ابن الأزرق ـ وهو زعيم الأزارقة ـ إلى عبد الله بن صفار وعبد الله بن أباض ـ وهما من زعماء فرقة أخرى ـ : قال : وقال تعالى : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) فقد حرم الله ولايتهم والمقام بين أظهرهم وإجازة شهادتهم وأكل ذبائحهم وقبول علم الدين عنهم ومناكحتهم ومواريثهم ) . وحيث كانت ( مجتمعات المسلمين المخالفين ) دار كفر فلا يجوز البقاء فيها ، ولذلك فقد هجروها ، وشكلوا لهم مجتمعات صغيرة خاصة .. وهذا ما وجدنا في العصر الحاضر من قبل جماعات التكفير والهجرة ، وهذا الاسم وإن كان اسم جماعات سياسية معينة ولكنه واقع قسم من هذه الحركات التكفيرية . وأما قتل الأطفال والنساء فقد رأيناه بشكل واضح في أكثر من بلد مسلم . نعم كان هناك اختلاف بينهم في أن أطفال المسلمين المخالفين يقتلون لأنهم ملحقون بآبائهم والفرض أنهم كفارأو يمهلون ويؤجلون لأنه لا يتمشى منهم الكفر والايمان .فتخالف في ذلك نافع بن الأزرق ونجدة الحروري .. وقد سبق أن تعرضنا إلى رسالة بعثها بن الأزرق لبعض الخوارج . كذلك من معالم تطرفهم العقدي هو ما يرونه في الخلفاء الأربعة بعد النبي صلى الله عليه وآله ، فقد يكون طبيعيا أن يتخذ شخص ما موقفا ما من شخص حاكم ، ولكن هؤلاء اتخذوا موقف التصحيح والتأييد من الخليفتين الأول والثاني ، وأما الثالث والرابع فقد حكما عليهما بالكفر ، أما عثمان فمن السنة السادسة من حكمه ، وأما علي ابن أبي طالب فهو كافر من أيام التحكيم . إلى هنا يبدو الأمر طبيعيا مادام يعبر عن رأي ! لكن المشكلة هي أن هؤلاء يعرضون الناس على رأيهم هذا فإن قبلوه وإلا عرضوهم على السيف !. فإنه قد ذكر المؤرخون، والنص هنا لابن قتيبة: أن الخوارج «.. بينما هم يسيرون، فإذا هم برجل يسوق امرأته على حمار له؛ فعبروا إليه الفرات، فقالوا له: من أنت؟ قال: أنا رجل مؤمن. قالوا: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: أقول: إنه أمير المؤمنين، وأول المسلمين إيماناً بالله ورسوله. قالوا: فما اسمك؟ قال: أنا عبد الله بن خباب بن الأرت، صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم. فقالوا له: أفزعناك؟ قال: نعم. قالوا: لا روع عليك، حدثنا عن أبيك بحديث سمعه من رسول الله، لعل الله ينفعنا به. قال: نعم، حدثني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: ستكون فتنة بعدي، يموت فيها قلب الرجل، كما يموت بدنه، يمسي مؤمناً، ويصبح كافراً. فقالوا: لهذا الحديث سألناك. والله، لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحداً. فأخذوه وكتفوه. ثم أقبلوا به، وبامرأته، وهي حبلى متم، حتى نزلوا تحت نخل؛ فسقطت رطبة منها؛ فأخذها بعضهم؛ فقذفها في فيه. فقال له أحدهم: بغير حل، أو بغير ثمن أكلتها؟. فألقاها من فيه.ثم اخترط بعضهم سيفه، فضرب به خنزيراً لأهل الذمة؛ فقتله. قال له بعض أصحابه: إن هذا من الفساد في الأرض. فلقي الرجل صاحب الخنزير، فأرضاه من خنزيره. فلما رأى منهم عبد الله بن خباب ذلك، قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى؛ ما علي منكم بأس. ووالله، ما أحدثت حدثاً في الإسلام، وإني لمؤمن، وقد أمنتموني؛ وقلتم: لا روع عليك. فجاؤوا به، وبامرأته؛ فأضجعوه على شفير النهر، على ذلك الخنزير، فذبحوه، فسال دمه في الماء. ثم أقبلوا على امرأته، فقالت: إنما أنا امرأة، أما تتقون الله؟ فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاث نسوة؛ فيهن أم سنان، قد صحبت النبي (عليه الصلاة والسلام). فبلغ علياً خبرهم؛ فبعث إليهم الحارث بن مرة؛ لينظر فيما بلغه من قتل عبد الله بن خباب والنسوة، ويكتب إليه بالأمر. فلما انتهى إليهم ليسألهم، خرجوا إليه فقتلوه . من خصائص هذا المنهج وأتباعه : العنف في السلوك العنف في السلوك الاجتماعي يعني أن إنسانا يقاطع الآخرين تبعا لموقفه العقدي منهم ، فهو يرى أن هذا منكر و لكي ينهى عن المنكر لابد أن يقاطع هذا الإنسان المخالف له في العقيدة ، ولو كان يتشهد الشهادتين و يصلي و يقرأ القرآن ..بينما نجد أن الإسلام يوصي بالالتقاء والتواصل كما في وصية أمير المؤمنين لأبنائه : ( وعليكم بالتواصل والتبادل وإياكم والتقاطع والتدابر ).. إن المشكلة هي حين تتصور فئة أنها صاحبة الحق المطلق وأن لا أحد سواها يمكن أن يكون له نصيب منه ، ثم ترتب على هذه النظرية أثرا ، وممارسة اجتماعية تنتهي إلى تكفير وتضليل مجتمع بكامله ، وإعلان الحرب ـ بالوسائل المتوفرة ـ عليه ! في الكلمات السابقة التي نقلناها عن أمير المؤمنين توجد محاكمة لهذا المنهج والاسلوب ، فهو يقول : أيها الخوارج ..لنفترض أني أنا أخطأت ..أنا علي ابن أبي طالب ..لنفترض ونسلم جدلا بأنني أخطأت وهذا سمو في الخلق الإسلامي.فهو هنا في حالة إنصاف للخصم ، وكثيرا ما وقف الإمام هذا الموقف (إني خرجت في مخرجي هذا إما ظالما وإما مظلوما وإما باغيا وإما مبغيا عليه ) فإنه لا يمكن أن يفترض نفسه أمامهم هو المحق ثم يقول تعالوا نتناظر ونتناقش .. لنفترض أنني مخطئ فلماذا تؤاخذون أمة محمد بكاملها بضلالي ؟سيوفكم على عواتقكم ..تأخذون البريء والسقيم ومن أذنب ولم يذنب ..لماذا تنتقمون من الأبرياء ؟..تعالوا وانظروا إلى صاحب العلاقة ..أما أن تعمموا المسألة فهذا خلاف الحق .. ثم يناقشهم في تكفيرهم الناس على أساس المعصية ، فيقول :هذا مخالف لسنة الرسول لأن الرسول صلى الله عليه وآله قطع يد السارق وهكذا رجم الزاني المحصن وجلد غير المحصن وأقام عليه الحد الشرعي ، ولكنه بعد ذلك لم يحكم عليه بالكفر ، ولم يخرجه من الدين ، بل أعطاه سهمه من الفيء والخراج وجعله من عامة المسلمين وقبل أن يتزوج المسلمات ..ولو كان كافرا ما كان يتزوج مسلمة ..حتى إذا مات صلى عليه ودفنه في مقابر المسلمين وورثه أبناؤه كما كان يرث منهم . 14 الرفق والسلام عنوان الدين من كلام لسيدنا ومولانا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه قال للحارث الهمداني (وخادع نفسك في العبادة و ارفق بها ولا تقهرها وخذ عفوها ونشاطها إلا ما كان مكتوب من الفريضة فتعاهدها على قضائها عند محلها )صدق سيدنا ومولانا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه . انتهى بنا الحديث في الليلة الماضية إلى أن من أسباب العنف في مجتمعاتنا المنهج الفكري المغلوط ..عدم التوازن في فهم العقيدة وعدم التوسط في معرفة الشريعة ..هذا الأمر كما تقدم هو الذي يشكل الأرضية المناسبة لتوجهات العنف سواء في الأفكار أو في السلوك الاجتماعي أو في السلوك السياسي .. نحاول أن نتناول ما يفترض من مفردات لحل هذه المشكلة ضمن النهج الإسلامي كما نستفيده من كلمات أمير المؤمنين ومن سيرته .. بقيت هناك نقطة من حديث البارحة نستكملها هذه الليلة ثم نبدأ في الكلام عن الجانب الآخر المضاد للعنف وهو ما يصطلح عليه في كلمات أهل البيت بالرفق ما بقي من بحث يرتبط بالليلة الماضية هو أن من مناشئ العنف أيضا إضافة إلى المنهج الفكري الخاطئ ..من منابت العنف وجود أوضاع الكبت في المجتمع ..فالمجتمع الذي يعيش الكبت ويعيش الاضطهاد ويعيش حالات القهر من دون أن يجد متنفسا له بشكل طبيعي ينفجر في دوامة عنف لا يسيطر عليها لا الفاعل ولا المصاب.. فلا القائم بالعنف يستطيع أن يسيطر على حدود هذا العنف ولا المقاوم له ولا المدافع عنه أو المصاب به يستطيع أن يسيطر على دوامة العنف هذه أبدا.. كلاهما لا يستطيعان وذلك مثاله العرفي الواضح كما لو كان لديك قدر ووضعت فيه مقدارا من الماء وبدأت تسخنه ولو على نار هادئة ..إذا أحكمت إغلاق غطاءه بحيث لا يجد هذا البخار متنفسا له فإنه بعد عدة ساعات ولو كانت النار هادئة إلا أن هذا القدر مهما بلغت سماكة جداره الفولاذي لا يلبث أن ينفجر.. وهذه مسألة واضحة في الحياة الاعتيادية ..لذلك حينما يقولون قدر الضغط أيضا مع ذلك يجعلون له ضمن درجة معينة ..إذا تزايد البخار وتزايد ضغطه يجعلون له عند تلك الدرجة متنفسا وإلا ينفجر ويدمر ما حوله . هذا البخار عند ضغطه يتحول إلى قوة مدمرة قوية بينما إذا فسح له المجال لا يصنع شيئا أبدا ..كذلك الأمر بالنسبة للمجتمع .. فالمجتمع إذا كان يعيش حالات الكبت و الضغط .. لا يلبث بعد مدة من الزمان أن ينفجر في فورة عنيفة قد لا تبقي ولا تذر ..أما إذا كان هذا الضغط يجد له متنفسا ضمن ممارسة حرة فإن هذا المجتمع سيكون مصونا عن هذه الحركات العنفية ..ولذلك وجدنا البلاد التي فيها مقدار من الحرية أو الديمقراطية أقل تعرضا لدوامة العنف من البلاد الأخرى التي لا تعيش ذلك المقدار من الحرية ..طبعا الحرية المطلوبة ليست الحرية المطلقة لأن هذه أيضا ليست في صلاح المجتمع بل لابد أن تكون مقيدة بحدود وموازين . لقد نقلوا أن الخليفة العباسي المأمون ، بنى قصرا وجاء الناس يهنئونه ، بينما كان أحدهم يكتب على جدار القصر أبيات من الشعر : يا قصر جُمّع فيك اللؤم والشوم متى يعشعش في أرجائك البوم ؟ متى يعشعش فيك البوم من فرح أكون أول من يرعاك مرغوم وبطبيعة الحال فقد قبض عليه وأخذ إلى الخليفة ليلقى عقابه ، وسئل لماذا كتب ما كتب ؟ وما الذي حدى به أن يقول هذا الشعر ؟ وما معناه ؟ ولماذا يتمنى أن تعشش البوم في هذا القصر وهذا كناية عن خرابه وموت أهله ؟ قال له ( المأمون ) : ويلك ! ما حملك على هذا ؟ فقال : يا أمير المؤمنين , انه لا يخفى عليك ما حواه قصرك هذا من خزائن الأموال والحلي والحلل , والطعام والشراب والفرش والأواني والأمتعة والجواري والخدم وغير ذلك مما يقصر عنه وصفي , ويعجز عنه فهمي .واني قد مررت عليه الآن وأنا في غاية الجوع والفاقة , فوقفت مفكرا في أمري , وقلت في نفسي :هذا القصر عامر عال , وأنا جائع , ولا فائدة لي فيه , فلو كان خرابا ومررت به لم أعدم رخامة أو خشبة أو مسمارا أبيعه وأتقوت بثمنه , أوَما علم أمير المؤمنين رعاه الله قول الشاعر : اذ لم يكن للمرء في دولة امرىء نصيب ولا حظ تمنى زوالها وما ذاك من خبث به غير انه تمنى سواها فهو يهوى انتقالها وهذا التبسيط للمسألة صحيح ، فإن الشخص إذا لم يحصل على ما يتمناه في ظل دولة معينة ، فإنه يتمنى أن تزول هذه الدولة وأن يكون في ظل دولة أخرى حتى يحصل على ما يريد ، وليس ذلك لجهة خباثته أو سوء نفسه .فهذا مثل أن يقول الشخص : اللهم غيّر سوء حالنا ..فإنه يطلب مكانا جديدا ودولة جديدة ووضعا جديدا ..هذه الحادثة تشير إلى هذا المعنى .والمفروض أن لا يعاقب هذا القائل لأجل تمنيه زوال القصر أو خرابه ! ثم إن بعض الناس يتصور أن موقع الأخلاق في الإسلام هو موقع كمالي وإضافي والحال أنه ليس كذلك ، بل لو أردنا أن نصور الإسلام كجسم ..يمكن أن نقول أن الإيمان هو القلب والأحكام هي الأعضاء والجوارح كاليد والرجل وأما الأخلاق فهي الدم المتحرك بين القلب وبين الأعضاء . لقد قال الرسول ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ).ومن ذلك يتبين أن موقع الأخلاق ليس كماليا، وإنما هو موقع إستراتيجي مهم ، وقد ذكرنا في موضع آخر كيف أن العدل يدخل في القضية الإعتقادية ويدخل في السلوك الشخصي ويدخل في الحركة الاجتماعية ويدخل في المسألة الفقهية.. الرفق طريق سالكة في العبادة والمجتمع الرفق أيضا هو من هذا القبيل كما سيتبين بعد قليل فهو مطلوب بالنسبة للآخرين ، ومطلوب في العبادة ، ومطلوب في معالجة الأمور المختلفة وحل القضايا المعقدة . فحتى العبادة مع أنها هي المقربة إلى الله يقول لك توسط فيها ، ولا تقسر نفسك عليهاـ في المستحب ـ لا تجبرها عليه بل ارفق بها وخادع نفسك في العبادة ..هذه وصية الإمام أمير المؤمنين للحارث الهمداني . إن الرفق بالنفس في أمر العبادة يجعلها تقبل عليها بشكل دائم ، وإما لو قسرها على المستحبات ، وكانت النفس في إدبار ، فإنه لا يؤمن أن تسأم النفس العبادة ! عندما يريد أمير المؤمنين  أن يذم الخوارج فإنه لا يذمهم بعدم عبادتهم (!) كيف وقد سبق أن ذكرنا أنه ما من صاحب بدعة إلا وهو كثير العبادة ، ولكنه يذمهم بشيء آخر وهو : انعدام الوعي والتعقل فيقول له : ( وأنتم معاشر أخفاء الهام سفهاء الأحلام ) فهذه الهامات والرؤوس فارغة ، ليس فيها شيء ، والعقول والأحلام سفيهة ! مع أن عبادتكم كثيرة ..لكن المهم هو هذا الجانب السلام قيمة أخلاقية حضارية : من المفردات الأخلاقية التي يؤكد عليها ـ تبعا لدورها ـ مفردة السلام ، ولو تأملنا فيها لوجدنا أنها تبدأ من الله وتمر بالعباد وتنتهي بيوم القيامة ؛ فالله هو السلام ومنه السلام وإليه يرجع السلام . إن قليلا من الصفات وردت بنحو المصدر، فإنه قد جاء في القرآن الكريم أن الله ملك وقدوس ، ومهيمن وعزيز وجبار ، وهذا طبيعي أن توصف الذات بصفة ، ولكن أن توصف بالمصدر فهو قليل ، وقد جاء في وصف الذات الالهية أنه ( السلام ) ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) . كما وردت هذه الكلمة في وصف ليلة القدر وأنها ( سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) .. وورد أن تحية الملائكة لأهل الجنة هي السلام ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) مثلما أن التحية الرسمية للمسلمين في الدنيا هي ( السلام عليكم ) . إن هذه التحية بما تحمل من أبعاد لتشير إلى معنى أن الإسلام يريد أن يشيع السلام في العالم وبين الناس جميعا .فهذه التحية عندما يلقيها الانسان المسلم على من يمر عليه يعلن السلام معه ، وأن العلاقة التي تربطني بك ليس علاقة جرب أو اعتداء ، أو فتك ، فليس لك من جانبي سوى السلام والأمن . والمفروض أن يتعمق الانسان في هذا المعنى وأن يعمل به ، وإلا فليس من الصحيح أن يعلن بلسانه السلام بينما يكون عمله في اتجاه الحرب والاعتداء . وبلغت أهمية هذا ـ في المعنى ـ أننا نجد أن الصلاة تبطل بتلفظ حرف واحد زائد متعمدا ، لكن الفقهاء يقولون أنه لو سلم عليك أحد وأنت في الصلاة فيجب عليك رد سلامه مع أنها كلام زائد عن الصلاة ! فكأن الشرع هنا يوجب عليك رد السلام و التحية لأن فيه إشاعة الأمن في المجتمع . وهذا لا يقتصر على المسلمين فقط ، وإنما يتسع ليصل إلى الحالة الانسانية ، فحتى غير المسلم يكون مشمولا لسلام المسلمين ، فهذا أمير المؤمنين  يقول في وصيته لمالك الأشتر النخعي ، وعهده إليه : وأشعر قلبك الرحمة لهم ( للرعية وجميع المواطنين ) فإن الناس إما أخ لك في الدين ( أي مسلم ) أو نظير لك في الخلق (أي شريك لك في الإنسانية) نعم هناك موارد معينة يختلف الأمر فيها كما هو الحال في موارد الجهاد مع الكافرين ، حيث أن هؤلاء يمنعون نشر السلام والإسلام . فليست المشكلة في الاختلاف الديني ، إذ أن الاسلام يحاول أن يضيق هذا الاختلاف باستعماله لمصطلح أهل الكتاب غالبا ، أكثر من استعماله لكلمة اليهود والنصارى .واستعماله هذه الكلمة كأنه يراد منه التركيز على نقطة الإشتراك بينهم وبين المسلمين وهي أن الجميع لهم كتاب سماوي . الفرق بين الحزم والعنف : قلنا إن الرفق مطلوب سواء في الحياة الشخصية و العائلية أو في الحياة الاجتماعية و السياسية .. والرفق ضده العنف ، فإن ما يساوي العنف حسب تعبيرات الأحاديث هو الخرق :فعن رسول الله صلى الله عليه وآله (ما وضع الرفق على شيء إلا زانه وما وضع الخرق على شيء إلا شانه )، وفي حديث آخر عنه : الرفق يمن والخرق شؤم ، وعن أمير المؤمنين  ( رأس العلم الرفق وآفته الخرق ) . غير أنه يحدث أن يتم الخلط بين الحزم وهو صفة مطلوبة ، وعامل نجاح فعن أمير المؤمنين  ( الظفر بالحزم ، والحزم بإجالة الرأي ) ، وعنه ( ثمرة الحزم السلامة ، وثمرة التفريط الندامة ) و ( اصل العزم الحزم وثمرته الظفر ) وعن الصادق  ( من كان الحزم حارسه والصدق جليسه عظمت بهجته وتمت مروته ) ، وبين العنف والخرق ، وهو خلق سيء ، وعنصر فشل وتخريب ! والربط بين العنف والحزم ربط غير صحيح ، فإن الحزم هو السيطرة على الأمور وأخذها بجدية وقد يكون من السيطرة عليها أن تأخذها برفق ولين ، فقد نقلوا أنه جاء رجل إعرابي إلى رسول الله محمد فبدأ يتكلم مع رسول الله بعنف ويرفع صوته قائلا : أعطني من مال الله لا من مالك ولا مال أبيك ! فهاج أصحاب النبي لتأديبه ! فأشار إليهم النبي أن يجلسو ا أشار إليهم فأسكتهم ثم أعطاه حمل بعيرين ، وأقبل عليهم ضاربا لهم المثل :مثلي ومثلكم كمثل رجل ندت عنه إبله وهربت ناقته فركض الناس خلفها وهي تزداد هربا، حتى جاء صاحبها وأمرهم بأن يتنحوا عنها وأخذ عشبا وقربه منها فرجعت إليه . إن الحزم هنا هو في أن يستميل هذا الأعرابي الجافي ، وأن يقبل منه ويعفو عما فعل . وأما لو أخذ جانب العقوبة والعنف لكان مفسدا . وقد يكون الحزم في موضع آخر هو في التزام جانب الشدة وعدم التراخي ، وعلى أي حال فليس هناك تساو أو ترادف بين الحزم والعنف .