تطور المأتم الحسيني عبر العصور
* لم يكن المأتم الحسيني والخطابة كالتي نراها اليوم ، وإنما تطور عبر مراحل زمنية حتى وصل إلى حالته المعاصرة ، مما يعني أنه يمكن أن يتطور فوق ما هو موجود .. ، وأن له قابلية أكبر في الخدمة الدينية.
* إنه ينبغي أن ينظر إلى محاولات التطوير المختلفة التي تحدث مع المحافظة على ثوابته على أنها أمر طبيعي .
يقسم آية الله شمس الدين رحمه الله، الأدوار التي مر بها المأتم الحسيني ، إلى ثلاثة أدوار ،
ـ الدور الأول : من تاريخ الواقعة إلى سقوط بغداد على يد التتار ، ونهاية الحكم العباسي في زمان المستعصم العباسي .
ـ الثاني : من سقوط بغداد في القرن السابع إلى بدايات العصر الحديث .
ـ الثالث : من بدايات العصر الحديث إلى أيامنا هذه .
* ويمكن لنا أن نقسم الدور الأول إلى قسمين : من تاريخ ما قبل الواقعة إلى نهاية الغيبة الصغرى ، ومنها إلى سقوط بغداد . وجهة التقسيم أن الفترة الأولى كانت تحت رعاية مباشرة من قبل المعصومين عليهم السلام .
** في الدور الأول : يمكن لنا ملاحظة أن هناك اهتماما استثنائيا بقضية الحسين ومأتمه بحيث يمكن القول أن أول راث ومقيم للمأتم كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) والامام علي (عليه السلام) فمن الأول ما نقله الطبراني في معجمه الكبير ج 23 : قصة أم سلمة ورسول الله عندما دخل الحسين ولم تشعر به ..إلى أن يقول : إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء ، ثم تناول من ترابها فأراه النبي (صلى الله عليه وآله) ..
وفي أمالي الصدوق عن الباقر نفس الرواية بإضافة : فقال : فضعيها عندك فإذا صارت دما فقد قتل حبيبي .
والإمام علي كما في مسند أحمد ج 1 : إن عبد الله بن نجي الحضرمي سار مع أمير المؤمنين فلما وصل إلى محاذاة نينوى صاح : اصبر يا أبا عبد الله ..بشط الفرات . فقلت وما ذاك قال دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونقل نفس الحديث السابق ، إلى أن قال : هل لك أن أشمك من تربته ، فقبض قبضة فأعطانيها فلم أن أملك عيني أن فاضتا ** وبعد الواقعة فقد قام أئمة أهل البيت أنفسهم بنقل قضاياها بصورة مؤثرة كما ينقل عن الامام السجاد ، وعن الباقر ، والصادق .. واستنشدوا الشعراء كالكميت وسفيان بن معصب ، والسيد الحميري ، ودعبل الخزاعي وغيرهم . كما استمعوا إلى المنشدين ، وكانوا يطلبون منهم أن يقرؤوا لهم بالرقة كما ينشدون في مجالسهم .. بل تشكلت تلك المجالس أيضا وصارت معروفة بدءا من أيام الصادق (عليه السلام) . بل هذه الفترة شهدت وجود أنواع من إحياء القضية الحسينية ، فقد كان هناك النادب والقاص والمنشد ، كما يظهر من رواية تتحدث عن زيارة شعبان ، وأن عند قبر الحسين كانت توجد هذه الطوائف .
** ما بعد الغيبة الصغرى ، كانت قد تشكلت دويلات شيعية : كالبويهيين في بغداد ، والحمدانيين في حلب ، والفاطميين في مصر . فقد نشط المأتم الحسيني بعد أن وجد رعاية رسمية ، وإعلانا عاما كما هو في عهد معز الدولة البويهي في حوالي 350 هـ . وبعد هذا التاريخ في زمان الفاطميين حيث عرف اسم الحسينية كما يتحدث عنها مير علي في كتابه مختصر تاريخ العرب ، يقول : كان من أفخم عمارة القاهرة في عهد الفاطميين : الحسينية وهو بناء فسيح الأرجاء تقام فيه ذكرى مقتل الحسين في كربلاء .. قبل أن يلغي كل ذلك صلاح الدين الأيوبي ويتخذ يوم عاشوراء يوم عيد وسرور كما في خطط المقريزي .
وبالرغم من ضغط المتعصبين في هذه الفترة في بغداد ، حتى لقد أصدر أحد علمائهم وهو أبوقتيبة البربهاري فتوى بقتل النائحة ( خلب ) كما كان هناك منشدون معروفون مثل أبو القاسم الشطرنجي وأحمد المزوق . ومثل ذرة النائحة . وبالطبع كان الطابع العام في هذه الفترة هو ذكر الحادثة والشعر فيها .وبرز من شعراء الندبة الناشيء الصغير .
الدور الثالث : ويبدأ من سقوط بغداد سنة 656 هـ : وفي هذه الفترة شهد شيئا من التراجع حيث كان الوضع في بداياته محكوما بيد التتار فلم يكن بالامكان أن يكون له نفس الشياع السابق ، ثم سيطر الأتراك على بغداد وعامة البلاد المسلمة ، وكانوا لا يشجعون هذا التوجه ، بل ربما شهدنا في أواخر عهد المستعصم قبل سقوط بغداد أيضا منع المأتم الحسيني .
نعم في هذه الفترة تمت كتابة عدد من المقاتل التي تؤرخ قضية كربلاء على يد عدد من العلماء مثل ابن شهراشوب السروي حيث كتب مناقب آل أبي طالب وضمنه قضية كربلاء بشكل مفصل ، ومثير الأحزان لابن نما الحلي ، واللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس الحلي . وقد اعتمدت هذه الكتب على ما كان قد كتب سابقا ، مثل مقتل الحسين للأزدي ، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج ، ومقتل الحسين للخوارزمي ، والارشاد للشيخ المفيد .
الدور الرابع : وهو من بدايات العصر الحديث :حيث توجهت الحوزة العلمية إلى أهمية المأتم الحسيني ، فكان أن نشأ جيل جديد من خطباء المنبر بالطريقة الحديثة ، على أثر توجيه المرجعية والعلماء المجددين ، فصارت هذه الطريقة المعهودة التي يتم فيها التوجيه والارشاد من خلال المنبر ، وتحول المنبر إلى مصدر مهم من مصادر الوعي الديني في المجتمع . وينقلون أن جمعية منتدى النشر التي أسسها المرحوم المظفر والسيد محمد تقي الحكيم كانت في صدد إنشاء كلية للخطابة الحسينية وهي وإن لم توفق لذلك ، إلا أنها أحدثت توجها جديدا في أهمية برمجة هذه الخطابة ، وكان من أبرز هذا النتاج الشيخ الوائلي رحمه الله .
هذا الدور لاحظنا فيه من حيث الموضوع تفاعله مع قضايا الأمة والدين ، ففي فترات الاستعمار كان صوتا عاليا ضد المستعمرين ، وفي فترات البناء كان عاملا مساعدا من خلال التوجيهات التربوية والأخلاقية ، وبيان فكر أهل البيت ، وتحليل التاريخ الاسلامي بنحو صحيح ، وتفسير القرآن بشكل جيد ، بل تحول هذا المأتم إلى موسوعة فكرية متنوعة على اختلاف ألسنتها ومواضيعها .
ومن حيث الاسلوب زادت الدقة التاريخية التي تتناول قضية كربلاء ، وزال عنها ما أضيف عليها من الزيادات غير الثابتة .
** ماذا نستفيد من هذا العرض التاريخي ؟
1/ التطوير أغنى المنبر ، ولذلك ينبغي أن لا نخاف من التطوير فيه .
2/ المنبر والمأتم الحسيني ليس شيئا ترفيا أو كماليا أو أنه تعبير عن حاجة مؤقتة حتى ينظر إليه بأنه سينتهي أو سيزول .. لقد تعرض المأتم خلال القرون الثلاثة عشر التي مر بها إلى مختلف الحالات ولم يتغير إلا إلى الأفضل والأحسن .
3/ أن الذي أبقى هذه الوسيلة هو حسينية المنبر ، و( إن لقتل الحسين حرارة لا تبرد في نفوس المؤمنين أبدا ) كما روى في المستدرك عن الصادق أن النبي قال ذلك بعد أن رأى الحسين مقبلا ، ثم قال : بأبي قتيل كل عبرة ، فقيل وما قتيل العبرة ؟ قال : لا يذكره مؤمن إلا بكى..